‏إظهار الرسائل ذات التسميات عراقيـــــــات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات عراقيـــــــات. إظهار كافة الرسائل

عراقي الحبيب .. لك الله يا عراق ..



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الله .. شعور جميل .. أكتب من جديد ..
اليوم الصبح كان الأفكار تصطرع في رأسي .. كأني راديو كاعد يلكط موجات متعددة في وقت واحد ..
أفكار كثيرة .. وكلام كثير أريد أشاركه وياكم ..
انشغلت كثير بحياتي خلال الأربع سنين الماضية ..
ما بين المطبخ والبيت .. الشغل .. وبناتي الصغار J
بالفعل ما لكيت وقت إني أكتب .. افتقدتكم .. افتقدت الكتابة ..
لكن ما مر يوم ما فكرت أنه ورة ما أخلص الشغلة الفلانية بلكي أكعد وأكتبلي كلمتين .. وطبعاً ما أدري شلون تصير الساعة 11 أو 12 بالليل .. وأبدي أدور على عزيزتي المخدة ..
والمشكلة المفروض بناتي ينامون بس آني من التعب أنام قبلهم !
المهم .. شنو اللي خلاني اليوم أأجل غسل البردة أو تنظيم المكتبة أو كتابة تقرير الشغل ؟؟
صارلنا كم يوم نشوف أخبار بكثافة .. ورغم فلسفتي بعدم مشاهدة الأخبار لأني واعية شنو ديصير بس ماكو داعي أشرك كل حواسي السمعية والبصرية بالمسألة واتأذى نفسياً من العجز اللي احنة بيه .. آني أدعيلهم واللي أكدر أسويه على بساطته أسويه ..
لكن من أشوف الأخبار وكم الألم اللي بيها ما أتحمل ..
المهم اليوم الصبح تذكرت لمن جنت أكتب قبل أربع سنين .. جنت أكول .. خلي نحيي الأمل بقلوب الناس .. خلي بقلبنا أمل .. راح يجي يوم وتنفرج الغمة .. راح يجي يوم وبإذن الله كلمن غلط يعاقب وتعيش الناس ..
وتوقفت عن الكتابة أربع سنين .. أجي أريد أكتب هم أكتب نفسي الشي؟؟ المشكلة الوضع أسوء .. وبكل مكان .. جروحنا كلها تنزف .. والجروح زادت .. ومهما كان الإنسان قوي ومثابر .. لمة تزيد عليه الأمور ينهار .. ويوكع ......
يارب .. يارب .. يارب ..
متى تفرجها عالمسلمين ؟؟؟
يارب صبرنا .. صبر أهلنا .. صبر عراقنا .. صبر المسلمين ..
حسيت إن حب حياتي كاعد يموت؟ ماكو أمل من شفاءه ..
حسيت بحنين جارف .. حب مؤلم يعصر القلب ..
جنت أكول من أتزوج أصير أروح للعراق أكثر .. أشوف العراق .. حبيبي .. بلدي الغالي ..
أريد أشوف العراق القديم .. العراق اللي سمعت عن أمجاده وتغنيت بيها ..
العراق اللي جان بيه في كل مجال عالم ومبدع ومبتكر .. كلهم فخر إلنا ..
البلدان هنا تتفاخر ان عندهم عالم واحد ... أو فنان واحد (وفوكاها من فنانين هالزمن ال....) خليها سكته .. لكن بلدنا ولله الحمد بلد للكثير جداً من العلماء والمخترعين والفنانين والمبدعين ..
حنيني خلاني أفتح معزوفة لرئد جورج .. راح أحاول أرفقلكم إياها ..
الموسيقى كانت ترسم صورة أمامي .. صورة عراقية ...
الآثار .. الآشورية .. السومرية .. البابلية .. بلد عظيم مليء بالتراث والعراقة والأصالة ..
شموخ ..
إنجازات على مدى قرون من الزمن ..
مبدعين .. من القادة للفلاحين ..
مبدعين بالفن ..
مبدعين بالعلوم ..
مبدعين باللغة والكتابة ..
مبدعين حتة بالزراعة .. وهنا شميت ريحة الركي اللي من تفتحها تشم ريحتها لآخر البيت ..
مبدعين بالعمارة ..
مبدعين بالتخطيط ..
بلد نسبة الأمية في يوم وصلت 0%
بعثات ..
علوم ..
أبداع متناهي في جميع المجالات ..
عناية ورعاية للموهوبين من الصغر ..
هيبة المعلم في المدرسة ..
أخلاقيات المجتمع ..
احترام الكبير ..
العطف على الصغير ..
الحب بين الكائنات ..
الابتسامة الطيبة ..
جتي ببالي راوة .. والنسمات النهرية الجميلة ..
وصوت النهر يخرخر ..
والنسوان الفلاحة اللي تشتغل جوة وبرة البيت بدون خدامة ولا مساعدة مثل الشعوب المترفة ..
ودائماً الابتسامة الطيبة ما تفارك الوجوه ..
وية ما هاية الصورة دتنرسم ببالي ..
تذكرت أنها بعيدة كل البعد عن الواقع الآن ..
وإنها مجرد ذكريات في ذهني .. ذهن طفلة راحت هناك ولعبت وانطلقت ..
لكنها الآن شي ثاني ..
لا الأرض أرضي ولا الناس ناسي ..
هاية العنقاء الشامخة اللي رسمتها ببالي .. قاتلت .. وقاتلت .. وقاتلت ...
لكن الكثرة تغلب الشجاعة ..
ووكعت ..
تحاول تكوم .. تجمع قوتها .. لكنها متأذية جداً ..
الدم بكل مكان ..
والعدو واكف يضحك .. ويكول للناس .. شفتوا شلون أدير بالي عليها؟؟؟!!!!
حسبي الله ونعم الوكيل ..
بجيت ... كهدت .. ودموعي غسلت وجهي ..
الوطن منكدر نبيعه لو نستبدله .. لازم نبقة وياه .. نسانده ونحاول نغيره ..
هنا ... ارتفع اللحن الأخير..
حسيت أنه بعد أكو أمل ..
أنه العنقاء الجريحة جمعت خيوط قوتها ..
دمعتها بعينها لمعت جوة الشمس ..
لكنها داست على روحها ووكفت ..
ببطء .. بحزن ..
لكنها وكفت ..
وراسها مرفوع للسماء ..
عمت عين العدو ..
والله لييجيك يوم ..
وراح يبقة العراق واكف .. مهما اثخنت بيه ..
كل واحد تكتله .. أكو غيره ينولد ..
يجيك يوم يا ظالم .. وإن شاء الله مو بعيد ..
والظالم هذا مو شخص واحد .. تتبدل الوجوه والخياسة وحدة ..
لكن يجيكم يوم ..
ويجي يوم ويرجع العراق ..
حبي الأبدي ..
ترجع إن شاء الله ..
ننتظرك بالورد .. بالحب اللي ما اله حدود ..


سيراميك .. فخار .. وأشياء جميلة أخرى!

السلاااااااااااام عليكم
اشونكم؟ أخباركم؟
هالمرة حاولت ما أتأخر قدر الإمكان..
ونعم.. كما هو واضح من العنوان.. راح أكشف لكم جانب فني مهم في شخصيتي..
تذكرون من جنا صغار نحب نلعب بالطين؟
ما أدري عاد إنتو جنتوا مثلي لو لا!
بس آني ترباية شقق، ومن نروح بيت أحد عنده حديقة يعجبنة من ضمن اللوصة أنه نلعب بالطين ونشكل أشكال.. (حتة كبة مسوية من الطين، بس ما أكلتهة لتخافون)..
وهنا هم بالصيف جنة نروح للبحر ومثل الكارتون نبني قلاع ونزينها بالصدف..
هسة آني كبيرة ما أكدر أبني قلاع على البحر، ولا أكدر ألعب بالطين، لازم أكعد بوقار وأناقة يم الناس!
بالتالي وعن طريق صديقتي العزيزة أتاوي، اكتشفت الجانب الفني اللي جان مندثر تحت تلال من التمدن والحضارة..
ورحت وياها لكهفها (أقصد مشغلها) الخاص، ولعبت بالطين!
نعم..
لكن هالمرة بقواعد.. وخلوني اهمسلكم..
ترة والله الشغلة حلوة، تريح النفس، وترجع ذكريات الطفولة، وتنفس الكبت الناتج عن العمل وضغط الحياة، والنتائج حلوة والواحد يفتخر بيها..
فالمهم وبما أنه أتاوي راح تتزوج قبلي بشهر لو وياية لو وراية (تالي ازوجت وراية بشهر) بس المهم وراح تروح بلد ثاني، وتعزل الكهف مالتها، فقلت أستغل الفرصة وأتعلم على إيد هاية الفنانة اللي هم ضامة فنها يمكن من الحسد..
إي.. ولبسنا جلد النمر ومسكنا عظام الدجاج (عود نازوكيين) وذهبنا للكهف..
ههههههههههه
لا عيني مو لهالدرجة، بس أخذني واهس الفخار والأواني الحجرية، وعزلة مشغل أتاوي الخاص وهدوءه منقطع النظير..
زييييييييييين..
وبما أنه صرت بروفيشينال.. خلي أشرحلكم شلون تسوون عمل.. (مو سحر) .. عمل فني جميل..
أولاً..... الفكرة..
أريد فدشي جميل، مميز، غير موجود في المحلات، ومو صعب التشكيل..
فدشي مثل خارطة العراق، تذكرت اللوحة اللي أحبها جداً في بيت احد أقاربنا، خارطة العراق مرسومة على الزجاج، كلش حلوة، وعندي أصلاً الخارطة بحجم كبير ممكن أخرمها على الورقة واستخدم الورقة لطباعة الرسمة على الطين وكصها (يعني مو بإيدي أرسم، بالعربي غش) بس غش إبداعي..
ممكن الملوية، أيضاً سهلة نوعاً ما، وممكن أدور صورة على الإنترنت واطبعها على ورقة A3 وأخرمها أيضاً..
أول شي العجينة، طلعنة من الكنتور طين متحجر جان ملك لأستاذها قديماً، خليط طين هوه محضره يعني تركيبة من المواد اللي تخلي السيراميك زجاجي أكثر أو بلاستيكي أكثر أو يعني اشتروا طين جاهز وفضوهة لأن هاية مو شغلة الفنانة الرقيقة..
كسرنة الطين، ونكعنا بمي، يومين يمكن لحد ما صار طين حلو، طلعنة جزء حتة نشتغل عليه، المفروض أن يتم عجنه على طاولة خشبية لأن الخشب يمتص الرطوبة منه إلى حد ما، ويتم عجنه بطريقة معينة حتى نطلع منه الهواء، لأن أي فقاعة هوة تخرب العمل عند الفخر، وينكسر..
بعد ما عجنا العجينة، وما أنه نريد نسوي جدارية، المفروض نفرش العجينة، إما بجاز فرش معين نكدر نحدد بيه سمك العجينة، أو بالشوبك عادي جداً، بس يرادله إيد خفيفة ودقيقة..
وصار عدنة عجينة مفروشة جاهزة للعمل كما في الصورة:


نطبع الحدود الخارجية للملوية، وخطوطها الرئيسية، ونوخر الورقة، ونبدأ نحفر ونعمق، ومثل ما علمتني أبلة أتاوي أو ست أتاوي، عمقنا الدرجات بحيث طلعت درجات حقيقية وانطت بُعد للملوية..


نغطي العمل بقماش حتى لا ينشف بسرعة فيتقعر أو ينحني، وثاني يوم هم نعدل شوية على الشكل لأن الطين يكون صار شوية أقوة، وهكذا نتابعها فترة إلى أن تنشف تماماً بس ببطء، يعني فد أسبوع، وبعد ما نجمع أعمال بحيث تملأ الفرن الواضح في الصورة:

تقرر ست اتاوي أنه نفتح الفرن، ونصف الرفوف داخل الفرن، ونصف عليها الأعمال، ونشغل الفرن اللي يبقة شغال تقريباً يوم ونصف، يصل لدرجة حرارة عالية جداً، ثم يفصل لوحده، وبعد يوم تهدأ حرارته حتى نكدر نفتحه واحتمال ننتظر يومين حسب الجو، المهم يبرد..
نطلع الأعمال وتكون بالشكل التالي:


هذه قطع سيراميك مفلشة لأن العجينة كانت تحتوي على فقاعات كما هو مبين في الصورة، وهذا اللي حجيت عنه قبل شوية، أنه طريقة العجن مهمة حتى لا تبقة الفقاقيع في العجينة:



لتلوين العمل، ممكن تلوينه بالألوان الخاصة بالسيراميك واللي تصير كأنها طبقة زجاجية فوق الفخار، وهي عبارة عن أكاسيد ومواد كيمياوية، بودرة لونها أبيض أو شوية على وردي أو شوية على أزرق، ويتم خلط البودرة بالماء والتلوين، وصدكوني تلوين عميان، أبيض بابيض، بس على علبة الأوكسيد مكتوب شنوة اللون، مع الأسف ما عندي صورة إلهة.
وبعد ما ينشف اللون، نفخر الأعمال مرة ثانية حتة يطلع اللون الحقيقي للقطعة وتتحول الأكاسيد إلى زجاج ملون.
هذه لوحة اسم توضع على المكتب، الصورة الأولى طين، الثانية طين مفخور ويسمى "بسكوت"، والثالثة هي للعمل بعد ما أكتمل تماماً:




               


اللون الذهبي في هذا العمل هوه مو لون، إنما ورق رقيق جداً، فبعد أن تم فخر القطعة بعد التلوين وطلعت كلها زرقة، حطنا صمغ معين يجي مع الورق الذهبي، ولزكنا الورق الرقيق فانطة اللون الذهبي الجميل.
وهنا تجي التحفة الفنية، خارطة العراق حوالي نصف متر في نصف متر، لكن التلوين هنا سوينا بالآكرلك، لأن هيه أصلاً لوحة مو صحن لو فدشي راح يستخدم، إنما فقط تعلق على الحائط، وخفت أنه درجات الألوان متطلع مضبوطة بعد الفخر، يجوز أغمق من اللي نريده، ويخرب اللوك مالت العلم، فلوناها آكرلك ورشيناها سبري شعر حتة ينطها اللمعة.



نخلتين والملوية معلقة في بيتي:




لوحات صغيرة من عمل خواتي:



خارطة العراق تجريبية بحجم كف اليد:


وهاهية خلص درس السيراميك، إن شاء الله يكون عجبكم..
وللساكنين في دولة الإمارات، أكو معهد للفن التشكيلي في المنطقة التراثية بالشارقة، ويوفرون مواصلات، والأستاذ عراقي، والعتب عاللي ميروح!

في جريدة الموقف: منفى في الفلوجة

الحلقات الأخيرة من "منفى في الفلوجة" أرسلها الأستاذ الفاضل الباحث أمير جبار الساعدي جزاه الله خيراً..
الحلقة الرابعة بتاريخ: العاشر من كانون الثاني عام 2010
الحلقة الخامسة بتاريخ: الثاني عشر من كانون الثاني عام 2010
الحلقة السادسة والأخيرة بتاريخ: الرابع عشر من كانون الثاني عام 2010
وبهذا تكون انتهت حلقات قصة "منفى في الفلوجة" والتي كما أسلفت قصة حقيقية، بل هي شيء بسيط مما حدث ويحدث في العراق الحبيب..
فلنقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء.. ولنرفع الأكف بالدعاء عسى أن يكون القادم من الأيام أفضل.. على الشعب العراقي والوضع الأمني والاجتماعي.. وكان الله في عون أحبابنا في العراق الحبيب..
دمت حراً.. دمت فخراً.. يا عراق الحضارات بالرغم من أنوفهم!


في جريدة الموقف: منفى في الفلوجة

لا يزال الأستاذ الفاضل: الباحث أمير جبار الساعدي مستمراً بإرسال الحلقات تباعاً..
الحلقة الثانية بتاريخ: 3 - 1 - 2009
(ههههههههه الجميل أنه محد نبهني! ترة احنة بعام 2010)
الحلقة الثالثة بتاريخ: 5 - 1 - 2009
جزاك الله خيراً ....



في جريدة الموقف: منفى في الفلوجة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف الحال جميعاً؟
أقدم لكم بسعادة قصة منفى في الفلوجة منشورة في جريدة الموقف ليوم 29 - 12 - 2009 ، حيث تفضل الأستاذ الفاضل: الباحث أمير جبار الساعدي بنشرها في الجريدة مشكوراً..
وقد عمل الأستاذ الساعدي كمترجم وباحث في مركز الدراسات الدولية جامعة بغداد، مدير تحرير مجلة الملف العراقي(شهرية)، مدير تحرير مجلة اوراق عراقية (شهرية)، وحاليا رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة الراية وهي جريدة يومية سياسية عامة مستقلة تصدر في بغداد، وهو أيضاً ناشط في منظمات المجتمع المدني.
عاجزة عن شكر الأستاذ الفاضل ......
بارك الله فيك وأحسن الله إليك ورزقك مما تحب ......

منفـــــى في الفلوجـــــة (3) - النهايـــــة

حُشدت جيوش جرارةٌ للقتال في الفلوجة، كان الجيش المحيط بالفلوجة يكفي لاحتلال العراق كاملة، وكانت ترسانة السلاح تحتوي على كل ما أنتجته مصانع السلاح، حتى الأسلحة النووية والكيمائية والمحرمة دولياً..
وانتشرت المنشورات في الشوارع والبيوت، تدعو أهالي الفلوجة للتعاون وتسليم الزرقاوي، حفاظاً على أنفسهم وأهلهم، ولسان حال الناس يقول:
- وأين هو هذا الزرقاوي؟ ولمَ لم نره أبداً؟!
حاول رؤساء العشائر التفاوض مع القوات الأمريكية، لكن الشرط الأوحد كان هو تسليم الزرقاوي.. لم يكن للزرقاوي وجود في الفلوجة، فرجال المقاومة هم شباب الفلوجة أنفسهم، الذين أبت نفوسهم الأبية العيش في ذل وهوان، فرفعوا سلاحهم ليدافعوا عن أرضهم وبلدهم ودينهم وأعراضهم، وليطردوا المحتل من بلادهم الحبيبة..
سلاحهم الذي كان بسيطاً مقارنةً بالدبابات والمدافع التي جاء بها الجيش الأمريكي، هذا بالإضافة للطائرات، فأكبر سلاح لدى شباب الفلوجة هو الآر بي جي.. كانت حرباً غير عادلة.. لكن الشباب تسلحوا بالإيمان والثقة بنصر الله..
كانت طائرات المحتل تجول في سماء الفلوجة، وتطالب عبر مكبرات الصوت بتسليم الزرقاوي، كما كانت تُسقط قنابل صوتية على المدينة لتثير فزع الأهالي واضطرابهم..
كانت الفلوجة محاصرة ولم تعد المؤون تكفي من في المدينة، والمحال أُغلقت لعدم وجود بضائع، وبدأت تحركات الجيش، ومع اقترابه أكثر من الفلوجة بدا أن الحرب وشيكة وأنها ستقوم بسبب أو بدون سبب..
كان الحل الأمثل هو الخروج من الفلوجة، وبدأت قوافل العائلات تنساب عبر المدينة، النساء والأطفال والشيوخ..
كل من كان يستطيع الخروج من الفلوجة ويعرف أحداً خارجها يستطيع اللجوء إليه، أخذ عائلته وخرج من المدينة..
كان الطريق من الفلوجة إلى بغداد لا يتجاوز خمساً وأربعين دقيقة، إلا أن القوات الأمريكية المحيطة بالفلوجة جعلت الطريق يطول لمدة اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة ساعة، كانوا يوقفون العوائل ويأمرونهم بالخروج من السيارة، ثم يتركوهم على هذا الحال هذه الساعات، دون ماء أو طعام، ويدفعون الأسلحة في وجوههم لبث الرعب في قلوبهم، ثم يتركوهم يمرون بعد ساعات العذاب الطويل..
لم يبق في الفلوجة سوى العائلات التي لا مكان لها خارج الفلوجة تلجأ إليه، فقبعوا في بيوتهم..
كانت عائلة الحاج أبو عماد مجتمعة في غرفة المعيشة تناقش الوجهة التي سيتخذونها عند خروجهم من المدينة، كان الشباب الثلاثة يريدون البقاء في المدينة ليساعدوا شباب المقاومة في الدفاع عن أرضهم، وقد واجهت رغبتهم هذه اعتراضات من والدتهم وأختهم ونجلاء وسندس، لكن الشباب كانوا مصممين، فقلوبهم تنبض بحب الوطن، ولا يمكن أن يتجاهلوا النداء، لكن كان لابد من إخراج النساء والأطفال وتأمين مكان لهم خارج الفلوجة، والد سندس الذي يعيش في بغداد عرض عليها المجيء عندهم، هي وزوجها وأولادها، أما الحاجة ساهرة فقد فكرت في ابن عمها طارق، فهي لا تعرف أحداً سواه خارج الفلوجة، كانوا يتناقشون عندما انتبهوا فجأة للحاج أبو عماد الذي كان بالكاد واقفاً يستند إلى إطار الباب وهو يقول:
- أنا لن أذهب لأي مكان..
قامت نجلاء بسرعة وأسندته ثم قادته إلى كرسي ليجلس عليه، فما أن جلس حتى قال عماد:
- أبي.. الأوضاع سيئة جداً ولن يبقى أحد في البلد تقريباً، فكل من يعرف أحداً خارج الفلوجة، أخذ عائلته وخرج، والذي يمتلك مالاً أخذ عائلته وأجّر مكاناً في بغداد أو في أي مكان خارج الفلوجة، وبعضهم خرج دون أن يعرف أين سيذهب، بقاؤكم لن يساعد بل سنقلق عليكم، ولن نكون أحراراً في تحركاتنا..
قال والده باستنكار:
- وتريدني بعد أن كبرت، وبعد كل هذا العمر، أن أخرج من داري فأتشرد في العراء أو أن ألتمس السُكنى عند هذا وذاك؟!!
قال عماد:
- لا يا أبي، فنحن والحمد لله نعرف أحداً في بغداد، أقصد عمي طارق، والذي لم يمانع في استقبالكم، بل قال أنه يستقبل الآن في بيته عائلة من الفلوجة.. الناس للناس يا أبي، وإن شاء الله لن تطول المدة ونعود لدارنا.
لكن والده هز رأسه رافضاً وقال:
- اذهبوا أنتم، أما أنا فأعمى، وكبير في السن، فلا أريد أن أخرج من داري التي ألفتها، ولا أن أثقل على أحد..
قالت الحاجة ساهرة وهي تضرب على صدرها:
- مستحيل.. رجلي على رجلك حجي، وحيثما تكون أكون، لن أذهب، سأبقى معك.
أخذ أياد يحاول إقناعها، وتساعده نجلاء، أما عماد فأخذ يناقش والده، ويحاول إقناعه، وكذلك فعل حازم، لكن الحاج أبو عماد أعلن أنه متعب وغير مستعد للكلام وسيذهب للنوم، ساعده حازم ليصل إلى غرفته، وعاد ليشارك في القرار، وبعد نقاش مطوّل اقتنعت الحاجة ساهرة أن تذهب من أجل نهلة، وعلى وعد أن أولادها سيقنعون والدهم ويلتحقون بهم في بغداد، وعائلة عماد ستذهب إلى بيت أهل زوجته، أما حازم وأياد ونجلاء سيبقون في الفلوجة، فلا بد من أحد يعتني بالحاج، وقد كانت نجلاء مصممة على البقاء معه حتى يقتنع، وإن كانت تخفي أمنية داخلية في أن تتسنى لها فرصة المشاركة في الدفاع عن مدينتها الحبيبة..
وهكذا ركب الجميع سيارة عماد، وكان وداعاً بسيطاً لأن الحاجة ساهرة كانت متأكدة أن زوجها سيقتنع خلال يومين، وسيلحقون بهم جميعاً في بغداد، وإن هي إلا أيام ويعودون جميعاً ليعيشوا في منزلهم مع بعضهم من جديد.
رافقهم أياد وحازم فعادت نجلاء وحدها للبيت وأحست بالفراغ، فالبيت قبل قليل كان عامراً بأهله، أما الآن فخاوٍ خصوصاً بعد رحيل أولاد عماد..
كان الوقت عصراً فاتجهت إلى غرفتها لتنقل بعض الأغطية والوسائد، فقد قرر أياد أنهما سينامان في غرفة المعيشة القريبة من غرفة والده حتى يكونوا في خدمته ويسمعوه إذا أراد شيئاً، وأحضرت معها كتاباً عن تريبة الأطفال، قرآناً، وشغل الحياكة الخاص بها، لتقضي وقتها، وحاولت شغل نفسها خلال انتظارها لأياد وحازم، فقامت بترتيب بعض الأشياء وتوزيعها.. حضرت بعض العشاء للحاج أبو عماد، وساعدته في تناوله، ثم جلست تنتظرهما..
عندما تقدّم الوقت، كان القلق يعصف بها، ما الذي أخّر أياد وحازم عن الحضور؟ كان عليهما فقط مرافقة الباقين إلى حدود الفلوجة، لكنهما تأخرا! أين تراهما ذهبا؟ أو ماذا حصل لهما؟
كانت تتنقل من نافذة لأخرى تحاول النظر إلى الشارع من زوايا مختلفة علها تراهم قادمين، كان الظلام قد لفّ الكون، لكن قلبها خفق بشدة حينما لمحت ظل سيارة تقترب، فانطلقت إلى الباب وفتحته تنظر عبر فرجته، وكم كانت فرحتها شديدة عندما وقفت السيارة أمام المنزل ونزلا منها، دخلا وألقيا عليها السلام وهما يلهثان، كانا يبدوان متعبين، اضطربت نجلاء وهي تنظر إليهما، وملابسهما ممزقة في بعض أجزائها، ووقعت عيناها على بقعة دماء على ساعد أياد، فاندفعت إليه تتفحصها، وهي تصرخ:
- ما الذي حصل؟ كيف جُرحت هنا؟ وما الذي حصل للباقين؟
ومن خلفها تناهى صوت الحاج وهو يقول:
- خير إن شاء الله.. خير إن شاء الله..
أجابها أياد وهو يجاهد ليلتقط نفسه:
- الجميع بخير.. لم يحدث لهم شيء..
قالت نجلاء بصوت مرتعد وكأنها لا تصدق:
- قل الحقيقة.. كلهم بخير؟ لم يُصب أحد؟
نظر إليها أياد بإجهاد وقال:
- أكيد.. أكيد.. سأحكي لك فيما بعد.. أريد بعض الماء.. أشعر بالعطش الشديد..
لكن الحاج سأله بقلق:
- قل يا ولدي ولا تخفي علينا.. قل الحقيقة.. أمك بخير؟ أختك؟ أخوك؟ أولاد عماد؟
ابتسم أياد وقال:
- نعم.. كلهم بخير.. والله العظيم هم بخير..هه صدقتموني؟
أومأ الحاج برأسه وقال:
- الحمد لله.. الحمد لله..
ركضت نجلاء وأحضرت ماء وكأسين وقدمت لهما، ثم أحضرت بعض المواد المطهرة وأخذت تداوي جرح أياد وهي تسأله:
- ولكن كيف أُصبت؟ هل هاجموكم وأنتم ذاهبون أم وأنتم راجعون؟
قال أياد والانهاك بادٍ على محياه:
- نجلاء أنا ميت من الجوع، بعد أن آكل سأحكي لك كل شيء.. اتفقنا؟
ابتسمت نجلاء باعتذار وقالت:
- بالتأكيد جائعان، فلم تأكلا منذ العصر والساعة الآن تقارب منتصف الليل..
ذهبت إلى المطبخ لتحضر لهما شيئاً يأكلانه، ولما لم يبق الكثير من المؤون، بعد الحصار الذي ضُرب على الفلوجة، كانت نجلاء قد حضرت ما وجدته ليتناولوه فوضعت بعض الجبن وأخرجت علبة المربى الأخيرة من المخزن، وما بقي من الخبز الذي خبزته صباحاً الحاجة ساهرة، حضّرت بعض الشاي ثم ذهبت بالعشاء إلى حيث جلس أياد وحازم في غرفة المعيشة لكنها وجدت أياد قد نام، فقدمت العشاء إلى حازم وذهبت لتحضر غطاءً تغطي به أياد، ثم جلست قبالة حازم وقالت له:
- أخبرني ما الذي حصل؟
ضحك وقال:
- يا زوجة أخي ألن تتركيني أتناول الطعام فقط؟
فقال الحاج:
- إن كانت هي ستنتظر أنا لن أنتظر.. لماذا جُرح أياد؟ كيف؟
نظر إليهما حازم وقال بانصياع:
- حسناً.. أولاً أرجوكما ألا تقلقا فعلاً، فقد أوصلنا الجميع إلى الحدود بسلام، وإن شاء الله سيكلموننا عندما يصلون إلى بغداد ليطمئنونا، فأنت تعرفين أن قوات الاحتلال تعرقل كل الخارجين من الفلوجة..
قاطعته بلهفة وقالت:
- الحمد لله أنهم بخير، لكن لم أنتم متعبون، ولم هذا الجرح في ساعد أياد؟
نظر بإشفاق ناحية أخيه وقال:
- بعد أن أوصلناهم، اقترحتُ أن نذهب مباشرة إلى قائد شباب منطقتنا الأخ عبد المحسن، لنعرف كيف سنساعدهم، وكيف سنتصرف في الأيام التالية، وعندما يبدأ الاقتحام، فالمقاومة منظمة الآن وهم يضعون الخطط ويرتبون توزيع السلاح، وعندما وصلنا إلى عبد المحسن بدا كأنه ينتظرنا، قال أنه فعلاً بحاجة إلى شباب لإحضار بعض السلاح الذي هرّبه بعض الإخوة سابقاً ولم يستطيعوا إحضاره في ذاك الوقت لأن جنود المحتل كان قد كثفوا المراقبة في تلك المنطقة، فأخفوه بجانب النهر، وكان دورنا فقط أن نحضره من هناك، كانت مهمة بسيطة، ذهبنا ومعنا عبد العزيز أحد الشباب الذين أخفوا السلاح، ووصلنا إلى هناك، وحملنا الصناديق إلى السيارة، وعندما كنا ننقل آخر الصناديق سمعنا صرخة ويبدو أنهم تنبهوا لوجودنا، فقد أمطرونا بالرصاص، عندها أصيب أياد..
نظرت ناحية أياد بحزن وهي تقول:
- الحمد لله على سلامتكما، والحمد لله أن جرح أياد ليس خطيراً، لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟
ابتسم حازم في إنهاك وقال:
- الحمد لله.. استطعنا الوصول للسيارة والانطلاق بها، بعضهم حاول أن يتبعنا، لكنهم لم يستطيعوا التوغل في الفلوجة، حيث بدأ إطلاق الرصاص من بعض الشباب المرابطين على حدود الفلوجة..
التمعت عيناه جذلاً وهو يتابع:
- أشعر بالسعادة في روحي وقلبي لأني ساعدت في إحضار السلاح، لقد أخبرنا عبد المحسن أن نبقى في منازلنا، وأن نخرج للقتال فقط إذا حصل اشتباك في المنطقة، لا تعرفين كم هم منظمون، لقد رأيت سالم هناك، وعدنان، ومحمد وعبد القادر، والكثير ممن نعرفهم من جيراننا ومعارفنا، وقد قسّم عبد المحسن المهام على الجميع..
قالت نجلاء بحزن:
- ألا يوجد دور لي؟
سمعت صوت أياد الذي استيقظ وهو يقول:
- نعم بالطبع.. أنت تعتنين بوالدي..
ضحكت ونهضت قائلة:
- الحمد لله على سلامتك.. هل أحضر لك العشاء؟
نظر أياد لها بامتنان وقال:
- نعم إذا سمحت.. فأنا لا أعرف كيف غفوت وأنا جائع لهذه الدرجة.
ضحكت واتجهت إلى المطبخ لتحضر له العشاء.. في الأيام التالية كان القصف يتكرر مرتين يومياً.. كان الجميع يجلسون في غرفة المعيشة، وكل واحد منهم يحاول قطع الصمت بإثارة موضوع ما، غير أن الموضوع كان ينتهي بسرعة مخلفاً صمتاً ثقيلاً، حاول أياد مناقشة والده في موضوع ذهابه إلى بغداد غير أنه كان رافضاً وبشدة..
ذات مساء جلست نجلاء لقراءة كتابٍ وهي تنظر للساعة كل حين، حيث يبدو أن الوقت لا يمضي، وعقارب الساعة ثابتة، كم تفتقد سندس ونهلة، كانوا دائماً يختلقون لعبة ما، أو تتحدث مع سندس أحاديث لا تنتهي عن الأولاد، والتربية، والخياطة والتطريز وقراءة الكتب، وهي الهوايات التي كنّ يتشاركن فيها.
كان أياد يرسم بعض المخططات المطلوبة في عمله، ففرع الشركة في بغداد لم يتوقف عن العمل كفرع الفلوجة، ولا يزالون يحتاجون له، فتركته نجلاء لعمله.. ووقفت بجانب الشباك تنظر منه إلى المدينة الحبيبة، والهدوء يلفها، لا أصوات أو أضواء، نسمات هواء بسيطة تهب فتحرك سعفات النخيل التي كانت ظلالها تتراءى عبر ضوء القمر الذي يضفي ضوءه الفضي على البيوت وحدائقها..
كانت تسمع بعض الكلمات من حديث أياد وحازم المتقطع عندما شاهدت ضوءاً برّاقاً أضاء السماء، فأعماها عن الرؤية لحظات، تبعه صوت انفجارٍ شديد قطع كل حديث، ما عدا صرخة نجلاء، التي امتقع وجهها خوفاً وفزعاً، فانطلق أياد إليها وسحبها ليجلسا إلى جانب والده الذي كان يبسمل ويحوقل، وتبع هذا الانفجار سلسلة من الإنفجارات القوية التي كانت ترج الأرض رجاً، كان الجميع يذكرون الله، ويسبحونه ويستغفرونه، ولمدة ساعتين كاملتين لم يتوقف القصف، وفجاة هدأ كل شيء، فجأة كما بدأ، لم يصدق أحد أن القصف انتهى حتى مرت ربع ساعة، عندها نظر بعضهم إلى بعض في رعب، فقد كان هذا القصف يعني أن الحرب قد بدأت ولا هدنة هنالك.. وأنه لم يعد من مجال للذهاب إلى بغداد..
كان الجميع يظن أن الجيش سيقتحم الفلوجة وربما يفتشون البيوت بحثاً عن الزرقاوي، لكن أن تُدار الحرب من بعد عن طريق القصف والصواريخ فهذا ما لم يظنه أحد، إذ أنه يعني أن الجيش الأمريكي لا يبحث عن الزرقاوي، بل يهدف إلى هدم الفلوجة كاملةً، وقد تأكدوا من هذا عندما استمر القصف من جديد بعد نصف ساعة، واستمر الحال لمدة ثلاثة أيام، حتى تخيلت نجلاء أنه لم يبق بيت في الفلوجة لم يسقط الآن سوى بيتهم الذي حفظه الله بدعائهم المستمر..
كانوا يصلون وهم جلوس، أو في فترات انقطاع القصف، وفقد الجميع شهيتهم لأي طعام، فلم يكونوا يأكلون سوى القليل الذي يقيم أودهم.. كانوا يستغفرون الله ويذكرونه ويدعوه في كل دقيقة..
كان حازم يريد أن يعرف ما الذي يجري في الخارج، فقد كانوا أحياناً يسمعون بعد القصف بكاءً وصراخاً، لكن لا أحد يستطيع الخروج من داره..
في اليوم الرابع من بداية القصف، وعندما أشرقت الشمس، توقف القصف على غير عادته في الأيام الفائتة، توقف لمدة ساعتين كاملتين، فخفقت قلوب الجميع أملاً في الفرج أخيراً، وكان حازم يطل من النافذة يحاول معرفة الوضع في الخارج، كان متحمساً وهو يشرح الأدلة على أن القوات انسحبت، ثم رأى جارهم سعيد وهو يمد رأسه خارج الباب ليتأكد أيضاً من أن الأمان المفقود قد عاد للمدينة، وبعد لحظات وبصوت مكتوم، سقط سعيد على الأرض غارقاً في دمائه.
ذُهل حازم، وصمت فجأة بعد أن كان يتحدث، فانطلق إليه أياد ومد رأسه ليطالع ما كان حازم يراه وقال:
- ما بك؟ هل رأيت شيئاً؟
ثم سكت هو الآخر عندما رأي جنوداً أمريكيين يبرزون من خلف المنعطف، ووقعت عيناه على جارهم فصرخ:
- الجبناء.. ماذا يريدون الآن؟ هل سيمرون على كل بيت ليقتلوا من فيه؟
ابتعد هو وحازم إلى جانبي النافذة وهما يراقبان، وكانت نجلاء تنظر إليهما في جلستها بقرب عمها، وقد انعقد لسانها من الخوف، وكان الجنود يتقدمون مع دبابة كبيرة، ويفتشون بأعينهم عن كائن حي ليقتلوه..
كان بعضهم ينفصل عن المجموعة ويقفون على مسافات متباعدة على طول الشارع، انطلق حازم إلى زاوية الغرفة ليخرج سلاحه الذي أعطاهم إياه عبد المحسن، لكن أياد وضع كفه على كتف أخيه وهو يقول:
- لن تخرج.. حازم.. هذا ليس اشتباكاً..
نظر إليه حازم وقال:
- ولكن..
قاطعه أياد وكلامه يقطر حزناً:
- هذا اقتحام.. لن تستطيع فعل شيءٍ بمسدسك البسيط هذا.. ألا ترى أعداد الذين دخلوا؟ ولكن أين عبد المحسن؟ أين الشباب؟ هل حصل لهم شيء؟ أم أنها خطة لاستدراجهم لمكان ما؟
أطاع حازم أخاه، وعادا إلى النافذة يتابعان الدبابة حتى اختفت عن ناظريهما..
عادا يجلسان على الأرض، والقلق يغلي في أعماقهما، أما حازم فقد انزوى بعيداً عنهم، حيث بدا مصدوماً من مقتل سعيد، لمجرد أن أطل من الباب، وتخيل وقع الخبر على أهل سعيد الذين رأوه بالتأكيد وهو يموت أمام أعينهم دون أن يستطيعوا مساعدته أو حتى دفنه، فخلال الأيام التالية، بقي سعيد كما هو، وكما سقط، دون أن يستطيع أحد أن يفعل لجثمانه شيئاً..
كان الجنود لا يزالون يطوقون البيوت، فهم يتغيرون ويغيرون أماكنهم، لكن المكان محاصرٌ ولا سبيل للخروج من المنزل، وكان القصف مستمراً في أماكن بعيدة حيث يصل صوت الانفجار خافتاً، كان البرد يزداد شدة، وحتى داخل المنزل كان البرد شديداً إذ لم يبق غاز يكفي لإشعال المدفأة رغم اقتصادهم الكبير في استعمالها، وعندما حل المساء أصبح الجو أكثر برودة، كان برداً قارساً يتجاوز الجلد واللحم لينخر العظم رغم كل الطبقات التي تدثروا بها، وكانت رياحٌ شديدة البرودة تعبر النافذة المغلقة من خلال شقوقها الصغيرة، فقام حازم وبحث في البيت عن ورق ( كارتونة ) ليغطي بها النافذة التي تأتي بالزمهرير من الخارج، وأخيراً وجد واحدة، فاتجه إلى النافذة ليثبت الورقة عليها، وما إن أزاح الستارة حتى سمع أياد ونجلاء والحاج صوت تحطم زجاجٍ، ثم صوت رصاصة مدوية، توقف حازم عما كان يفعله، وتشنجت حركاته، استند على النافذة ثم سقط وهو يطلق همهمات خافتة، لم يدم ذهول الباقين سوى لحظات أطلقت فيها نجلاء صرخةَ رعبٍ، وصرخ أياد وهو ينطلق إلى أخيه:
- حازم.
وفي اللحظة التي وصل فيها إلى أخيه، دوت رصاصات أخرى عبرت النافذة المحطمة لتخترق رقبة أياد وصدره فتناثرت دماؤه وسقط مباشرة فوق أخيه، صرخت نجلاء بأعلى صوتها، وصرخت وصرخت وهي تبكي، ثم زحفت إلى حيث زوجها وسحبته من فوق أخيه، وأخذت تربّت على خده وتكلمه:
- أياد.. أياد.. حبيبي أياد.. أياااااااااد..
أخذت تبكي في حرقة وهي ترى الدماء الحارة تندفع من رقبته وصدره لتغرق الأرضية حولها، ونظرت باتجاه حازم، والدماء تغرق صدره، فوجدته مفتوح العينين وقد فارقتهما الحياة..
أخذت نجلاء تبكي وتبكي وهي تحتضن جثة زوجها، الجثة التي كانت منذ لحظات نابضة بالحياة، كانت تبكي دون توقف، وتصرخ.. تصرخ ألماً وحزناً، ثم التفتت إلى الحاج فوجدت عينيه المغلقتين تسكبان الدمع مدراراً، وضعت نجلاء رأسها على صدر جثة زوجها، لم تعد تتمالك نفسها، لقد فقدت في لحظة شخصين عزيزين، فقدت زوجها الحبيب، زوجها منذ خمسة أشهر فقط، زوجها الذي أحبته بكل قلبها، وملأ حبه قلبها وحفظته بين ضلوعها، كانت تنظر إليه بين اللحظة والأخرى لتتأكد من أنه قد مات، كانت تتمنى أن ترفع عينيها لتجده حياً، ربما مصاباً فقط، لكن في كل مرة كان تطالعها الدماء وملامح وجهه الذي فارق الحياة، فيعيدها ذلك من خيالاتها فتغرق في البكاء من جديد..
لم تدر كم مر عليها وهي على هذا الحال، كانت تبكي ثم تفيق دون أن تشعر أنها قد غابت عن الوعي، فتنظر إلى أياد وحازم فتعاود البكاء والصراخ من جديد ودون أن تدري تغيب عن الوعي.. وقد استيقظت ذات مرة ورأت عبر النافذة إلى السماء التي كان لونها برتقالياً غريباً، لم تدرك السبب، فقد وقعت عيناها على الجثتين فعادت للبكاء من جديد..
كانت السماء برتقالية بفعل الأسلحة التي استخدمها المحتل، والتي لم تكن أسلحة عادية، فقد كانت السماء تشع بأنوار فسفورية، وتتناثر هذه الأضواء كأنها سائل لتغطي كل شيء، ومباشرة بدأت الأمطار بالهطول، كانت أمطاراً غزيرة جداً، سببت فيضاناً فامتلأت الشوارع والبيوت بماء المطر..
مر يومين ونجلاء على هذا الحال، وعندما استيقظت هذه المرة كان ذلك بسبب الماء، شعرت بأنها تجلس في ماء بارد، وعندما عادت لوعيها تماماً سمعت صوت المطر يتساقط غزيراً في الخارج، والماء قد ملأ البيت تماماً، وكانت هي جالسة وسط بركة من الماء والدماء، نظرت إلى زوجها وإلى حازم، فأغلقت عيني حازم، وقبّلت زوجها على رأسه قبلة وداعٍ، والدمع يملاً مقلتيها، كانت تبكي وبشدة، وكان جسدها منهكاً من كثرة البكاء ومن البرد والبلل، لكنها تحاملت على نفسها واتجهت إلى عمها الذي نام في مكانه، وكان واضحاً أنه بكى كثيراً حتى نام، أيقظته، وساعدته على الوقوف، ثم مشيا عبر الماء الذي أغرق المكان، اتجها إلى الدور العلوي، وكانت نجلاء تمسح عينيها كل لحظة حتى تتمكن من رؤية الدرج بشكل صحيح، أوصلت عمها إلى غرفة في الأعلى، ثم نزلت الدرج وهي تتحاشى النظر إلى غرفة المعيشة..
كان يجب عليها أن تحافظ على حياتها وحياة عمها، فاتجهت إلى المطبخ، لم تدر كيف جاءتها القوة لتقوم بكل ما تقوم به، كانت طاقة من عند الله الرحمن الرحيم، كان كل شيء يسبح في الماء، فاتجهت إلى كيسي الطحين والأرز، وكان الماء قد بلل جزءاً كبيراً منهما، ففتحتها، وجلبت كيساً آخر وبدأت تنقل الطحين والأرز غير المبتلين بيدين مرتجفتين من كثرة البكاء، حملت الكيسين إلى الطابق العلوي، كان جسدها مرهقاً واهناً، لكنها عادت لتبحث عن الماء، فوجدت ما بقي من الماء وكان ستة قناني بلاستيكية، حملتها اثنتين اثنتين إلى أعلى، ثم استبدلت ملابسها المبتلة، وهنا كانت كأنما أنهت المهمة التي أمدها الله بالقوة من أجلها، استلقت وغابت عن العالم وهي لا تزال تشهق وتبكي..
لم تدرِ كم نامت، غير أنها استيقظت يهزها عمها بيده وهو يناديها:
- نجلاء.. نجلاء..
كانت قد نامت نوماً دون أحلام، لكن استيقاظها من النوم أعاد لها ذكرى ما حدث فانخرطت في البكاء من جديد، فقال لها عمها ودموعه على خده:
- يا ابنتي.. دعينا نستغفر الله.. اذكري الله.. اذكري الله..
قالت نجلاء من بين دموعها:
- لا إله إلا الله..
تابع عمها كلامه وهو يكفكف دمعه:
- لقد مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفلذة كبده، وعمه حمزة رفيق طفولته، وزوجته خديجة رفيقة دربه،فما كان من النبي الكريم إلا أن يقول:" إنا لله وإنا إليه راجعون "، قوليها يا ابنتي.. قوليها يربط الله على قلوبنا..
بصوت مختنق مرتجف وعبر شهقاتها قالت نجلاء:
- إنا لله وإنا إليه راجعون.
ربّت عمها على كتفها وهو يبكي ويقول:
- اللهم صبرنا.. اللهم صبرنا..
بعد فترة من البكاء هدأا فقال الحاج لنجلاء:
- لا يوجد لدينا ماء أليس كذلك؟ مكتوب علينا أن نموت جوعاً وعطشاً، لا إله إلا الله.
إلا أن نجلاء قالت:
- لا يا عمي عندنا ماء والحمد لله، لكنه قليل، سأحضر لك منه، أنا آسفة يا عمي قصرت في حقك.
قال لها عمها:
- لا يا ابنتي.. لا تعتذري.. أنت لم تقصري في شيء.. بارك الله فيك..
خلطت نجلاء بعض الطحين بالقليل من الماء صانعة منه عجينة طرية، وقدمتها لعمها وقالت:
- هذا ما عندنا، قليل من ماء وطحين وأرز، وعلينا أن نتدبر أمرنا في حدودها إلى أن يفرجها الله.
تناول منها عمها العجينة وأكل منها على كراهة، ثم شعر أنها لا تأكل، فقال لها:
- ألا تأكلين؟ يجب أن تأكلي حتى لا تموتي، توكلي على الله وسمّي بالله..
كانت نجلاء تعرف هذا لكنها لم تكن تستطيع أن تضع في حلقها لقمة طعام، ولما كان عطشها شديداً، استطاعت بصعوبة أن تشرب جرعتين من الماء..
كانت تفكر أنها بحاجة لأن تصلي حتى تريحها الصلاة، ويريحها الحديث مع رب العالمين، وكانت ترى من خلف الستارة أن النهار ينقضي، لم تكن تعرف كم مرَّ عليها من الوقت، ولم تعرف كم يوماً مر، وكم صلاةً فاتتها، أرادت أن تتوضأ لكن لا ماء ولا كهرباء فتيممت، ووقفت على السجادة تصلي..
كانت تصلي بلا عدد ولا حساب، تصلي الركعتين تلو الركعتين، وعندما قدرت وقت المغرب صلّته، ووقت العشاء صلّته، وكانت في صلاتها تبكي وتبكي وتشتكي حزنها إلى الله..
وكلما حاولت مخيلتها أن تعود للحظات استشهاد أياد وحازم كانت تمسك القرآن وتقرأ به، حتى تشغل فكرها بغير هذا الأمر..
بعث الله في روحها قوة نفسية هائلة، وإلا كانت ستموت هي الأخرى، فكل هذه الأهوال كبيرةٌ على عاتق أقوى الرجال، فما بالها بفتاة لا يتجاوز عمرها العشرين؟! إلا أن جزءً من تحاملها على نفسها كان اهتمامها بعمها، كانت تحاول إخفاء حزنها عنه، وتتظاهر بالصبر ورباطة الجأش حتى لا تُحزنه، وكلما رأته يبكي، أخذت تحاول أن تسرّي عنه، وكذلك هو كلما أحس ببكائها حاول محادثتها ليسرّي عنها، كانا يجبران نفسيهما على الأرز النئ والطحين المعجون بالماء حتى يبقيا على قيد الحياة، وكانا يشربان الماء بحرص وتقتير..
لم تحاول نجلاء الاقتراب من النافذة الموجودة في الغرفة، ولا حتى النزول من الطابق العلوي، كان الخوف يُلزمها مكانها، فلم تكن تعرف ماذا سيحدث لو دخل عليها الأمريكان، كما أن النافذة – ومنذ الحادث – أصبحت مكاناً محرماً خطيراً..
كانا يسمعان القصف والتفجير وأصوات الرصاص..
وكانا يصليان، ويقرآن القرآن..
ويدعوان..
**********************************************************
في بغداد كان القلق يعصف بالجميع، الحاجة ساهرة، نهلة، عماد، وأهل نجلاء.. لم يكن أحد يستطيع معرفة أي شيء عن الفلوجة، كانت الفلوجة الآن منطقة محرمة، لا يستطيع أحد دخولها، انقطعت الاتصالات بينها وبين العالم الخارجي، كل ما كانوا يستطيعون فعله هو الدعاء ليفرّج الله الأزمة، ويحفظ الجميع..
بعد خمسة وأربعين يوماً من بداية حرب الفلوجة، سُمح للناس بدخولها لكنه دخول مقيد، فقد كانت طوابير كثيرة من العائدين تقف أمام الفلوجة تنتظر السماح لها بالدخول، وقد هُرع والد نجلاء السيد عبد السلام إلى حدود الفلوجة عندما سمع الخبر، فقد كان يتوق للاطمئنان على ابنته، وإن كان يشوب قلبه قلق من أن لا يراها..
كان الكثير من الواقفين في الطابور تتم إعادتهم ولا يُسمح لهم بالدخول، وكان الناس يقفون في الطابور يوماً كاملاً وأحياناً تصل مدة الانتظار إلى ثلاثة أيام حتى يُسمح لهم بالدخول، ووقف عبد السلام وابنه يومين كاملين، نالهما خلالها التعب والإنهاك، لكنه ما أن دخلا الفلوجة حتى نسيا كل تعبهما، كانا يبحثان عن نجلاء، لكن ما كان يريانه في الطرقات كان يذهلهما كثيراً، فالجثث في كل مكان، أمام الأبواب، في الشوارع، كانت الجثث متحللة تنشر روائحَ كريهةًً، وكان منظرها مُقبضاً، بالدماء المتجمدة عليها، والإصابات الخطيرة، مرا بجانب جثة رجل كان يحمل طفلةً صغيرةً في يد، وفي اليد الأخرى قطعة قماشٍ بيضاءَ واضح أنه كان يلوّح بها ليذهب إلى مكان ما..
لم يتمالك الحاج عبد السلام نفسه، ووجد نفسه يبكي، كأن الموتى من أهله، كيف لا وهم مسلمون، ومن أهل بلده، وفوق كل هذا هم بشر.. بشر أبرياء لم يفعلوا شيئاً..
وعندما دخلا المنطقة التي تسكن فيها ابنته، لم يستطع التقدم لفرط ذهوله وبكائه، فقد كانت الجثث هناك غريبة الشكل، كان الجلد قد انفصل عن اللحم كأنه رداء خارجي، وكانت الجثث محترقة إلا أنها كانت محتفظة بثيابها سليمة كاملة، وبعضها كان قد ذاب اللحم فيها فاختلط مع العظم في منظر بشع جداً، لم يرياه في أسوأ كوابيسهما ولم يتخيلاه يوماً..
كان الألم يجتاح مشاعرهما، وكان رعب الحاج عبد السلام يتزايد كلما رأى ذلك خوفاً من أن يكون هذا مصير ابنته، حاول طرد هذه الأفكار من عقله، غير أن مرأى الجثث أمامه كان يحول بينه وبين ذلك..
أسرع الخطى باتجاه البيت المقصود، وهو يتحاشى النظر إلى الجثث المرتمية في كل مكان، وشبح الموت الذي يجول بين البيوت.. دق الباب ولكن لم يرد أحد، وعندما حاول فتحه وجده مغلقاً فبحث عن شيء ليكسر الباب، وانهال بالضربات على قفل الباب فخلعه واندفع إلى الداخل يبحث عن ابنته الوحيدة..
في هذه الأثناء لم تكن نجلاء تعرف شيئاً عن العالم الخارجي، ولم تعرف أن الحصار المميت قد انفك طوقه، وأن هناك الآن من يدخل الفلوجة، فلازال القصف مستمراً وإن كان متباعداً.. كانت تقرأ القرآن عندما سمعت ضربات على الباب، فانسحب الدم من وجهها، وارتجفت بشدة، قالت في نفسها: لابد أن هؤلاء من الأمريكان، وسيدخلون البيت ليبحثوا عنا ويقتلونا.. كان تفكيرها فيما يمكن أن يفعلوه قبل قتلها يكاد يقتلها رعباً، نظرت إلى عمها الذي توتر بدوره لسماعه الضربات، قامت إليه وأسندته ليذهبا إلى زاوية الغرفة، واختبئا هناك خلف قطعة أثاث، وهي تدعو الله وتقرأ الآية:
- وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون.
ومع الأصوات التي انتشرت في المنزل كان قلبها يزداد خفقاناً، وأنفاسها تلاحقاً، وانتبهت إلى أن عمها يعتصر يدها في كفه، يكاد الرعب يفتك بهما، وهي لا تزال تتلو الآية، ومع اقتراب الخطوات من باب الغرفة التي كانا فيها سمعت صوتاً بدا كأنها تعرفه، كاد قلبها يتوقف وهي تنصت، ثم ومع انفتاحةِ الباب، سمعت صوت والدها وهو ينادي:
- نجلاء.
وما أن رأته حتى بدا لها كأن نوراً ساطعاً أضاء في عينيها، وشعرت أن قلبها وجد الراحة أخيراً، وأن روحها خفيفة تطير.. تطير..
سمع الحاج أبو أياد صوت من ينادي على نجلاء، فاطمأن قلبه، وصرخ:
- هنا.. نحن هنا.. ساعدونا..
اندفع الحاج عبد السلام واحتضن ابنته التي وقعت في غيبوبة، احتضنها في سعادة وهو يملأ عينيه منها، فبعد أن وجد الجثتين المتحللتين بالأسفل بات الأمل في قلبه ضعيفاً بإيجاد نجلاء على قيد الحياة، والتفت إلى ابنه الذي كان يساعد الحاج أبو عماد على الوقوف، وقال له والحزن يختلط بكلماته:
- الحمد لله على سلامتكم يا حاج، الحمد لله على سلامتكم..
خرج الجميع من المنزل، وذهبوا إلى بغداد، ورقدت نجلاء والحاج أبو عماد في المستشفى لما كان يحتاجه جسديهما من عناية بسبب عدم توفر الطعام المناسب وقلة الماء..
وعندما أفاقت نجلاء من غيبوبتها لم تعد تستطيع الكلام، إلا أن مخيلتها ستحمل دوماً صورة مقتل أياد وحازم أمام عينيها، وذكريات المنفى في بيتٍ في الفلوجة، متذكرةً دائماً أن هذا الحلم هو ما جاءت أمريكا لتحقيقه..
حلم الحرية.. والعدل..
والديموقراطية..

الديمقراطية الأمريكية..

منفـــــى في الفلوجـــــة (2)

ملاحظة: القصة هي تسجيل لأحداث وقعت، وقدلا يكون لبعض الأحداث علاقة بالقصة الرئيسية، لكنها حدثت في نفس الفترة الزمنية، وذكر الحدث لا يعبر عن رأيي فيه.

في فندق الرشيد، في المنطقة الخضراء التي تستخدمها القوات الأمريكية كقاعدة ومنطقة أمنية خاصة بقياداتها والقيادات العراقية الموالية لها، وقف أربعة أجانب في ثياب مدنية، يتحدثون مع الجنرال مايكل، كانت الأوامر التي أعطيت له تقضي بتوفير كل التسهيلات لهؤلاء الأربعة، فهم خبراء من الموساد استعانت بهم المخابرات الأمريكية (CIA) لإحكام سيطرتها على العراق، فالموساد لهم خبرة طويلة مع العرب، وباع طويل في أساليب قتالهم ومقاومتهم وردعهم!!
كان القادة في الموساد قد أبدو رغبة قوية في المساعدة بمقابل الكثير مما تستطيع أن تقدمه أمريكا لهم من خيرات العراق، سواء من النفط، أو تسهيلات لليهود بتملك أراضي على العراق، فأرسلوا أربعة من أكفأ رجالهم وأكثرهم خبرة، كانت وجهتهم التالية هي قاعدة الحبانية العسكرية، وكان الجنرال يشرح لهؤلاء الأربعة الطريق الذي سيستخدمونه للوصول إلى هناك، وكان الطريق الوحيد المؤدي إلى الحبانية يمر عبر الفلوجة..!
ولما كانت الفلوجة تثير القلق فقد تم تجهيز الضيوف بأسلحة كثيرة وقوية، وسيارة على درجة عالية من التصفيح، ولبس الرجال ملابس مدنية للتمويه، فلا يعرفهم أحد..
أوصلهم الجنرال إلى السيارة، وزودهم بما يحتاجون إليه، وتابعهم بعينه حتى اختفوا، وتنهد كأنما قد انتهى من مهمة ثقيلة..
داخل السيارة كان رجال الموساد يتندرون ويضحكون على كل من يرونه، وكانوا يأكلون ويشربون ويمرحون، وعندما اقتربوا من الفلوجة، جهزوا أسلحتهم، فقد سمعوا عنها الكثير من جنرالات الجيش خلال الأيام الفائتة، فهي مدينة يرفض أهلها الخضوع لأمريكا، كما أنهم يشكلون جماعات مسلحة تقاوم الوجود الأمريكي والديموقراطية الأمريكية..
وعندما دخلوا الفلوجة سخروا في أنفسهم من كل ما سمعوه، فهي مدينة بسيطة جداً ويبدو الفقر في أنحائها، ولا يوجد فيها شخص واحد يحمل سلاحاً.. وكانت الأمور تمر بسهولة، ثم وعلى التقاطع الكبير في وسط الفلوجة اضطروا للوقوف، وقد أتاح توقفهم فرصة ليراهم المارّة، كان الناس ينظرون إليهم باشمئزاز فمنظر السيارة الحديثة يدل على أن ركابها من المحتلين..
ومن خلفهم على بعد عدة سيارات، وقفت سيارة كانت تراقبهم منذ أن دخلوا حدود الفلوجة، وفي داخل السيارة قال أحد الجالسين:
- هذه سيارة المخابرات التي وصلتنا أخبارها، استغلوا فرصة الازدحام ووقوفهم على التقاطع، لن نجد فرصة أفضل، فسيارتهم مصفحة، ولن يتوقفوا حتى يصلوا إلى القاعدة، توكلوا على الله.
نزل ثلاثة ملثمين من السيارة وبقي فيها السائق، واتجهوا إلى السيارة بخطوات سريعة خفيفة وطوقوها من جهات مختلفة، وبدأوا بإطلاق النيران وحناجرهم تهتف:
- الله أكبر.. الله أكبر..
سُمعت بعض الصرخات، وابتعد الناس عن السيارة، ووقفوا من بعد يراقبون ما يحدث، كانت الرصاصات تنطلق فتصيب السيارة، فتخدشها فقط، تسمّر رجال الموساد للحظات على الرغم من أنهم في سيارة مدرعة، ثم حاول سائقها الانطلاق بها غير أن السيارات التي تركها أصحابها حولهم كانت قد أغلقت الطريق، فاستل سلاحه وفتح النافذة قليلاً ليصوب باتجاه المقاومين، وكان زملاؤه قد فعلوا المثل فسمع أحدهم يصرخ به:
- موفاز.. اخرج بنا من هنا..
قال وهو مشغول بالتصويب:
- لا أستطيع.. الطريق مغلق.. نحن في سيارة مصفحة وهذه فرصة لننال من هؤلاء العرب المزعجين..
بدا الغضب في صوت الرجل الأول وهو يجاهد ليحسن التصويب عبر الفتحة الضيقة:
- تباً لك موفاز.. اصعد على الرصيف.. اخرج بنا من هنا قبل أن يأتوا بالإمدادات..
عقد موفاز حاجبيه وترك سلاحه وقال وهو يحاول التحرك بالسيارة:
- حقاً لم أفكر بهذا.. إمدادات!.. الملاعين!
في تلك اللحظات كان الشاب الذي بقي في السيارة يرى أن رصاصات زملائه ترتد عن السيارة، والسائق ترك التصويب، خفق قلبه بشدة، لم يكن يريد لهؤلاء أن يهربوا فهم غنيمة ثمينة لكونهم من رجال الموساد، فترك مكانه وانطلق إلى السيارة المصفحة، وقفز على سقفها، سمع ضحكاتهم وقد أصابوا أحد المقاومين، فأسرع وأدخل سلاحه من فتحة النافذة المجاورة للسائق الذي كان يصعد الرصيف الآن، وأطلق الرصاص، جحظت عين السائق وسقطت رأسه على المقود، فانطلق نفير السيارة.. اتسعت عيون باقي الجنود بدورهم، وصرخ أحدهم:
- اللعنة.. موفاز.. ولكن كيف؟
وقبل أن يعرف الإجابة انطلقت الرصاصات لتحصدهم جميعاً، تاركةً ملامح الرعب مطبوعة على وجوههم شاهدةً على كذب ادعاءاتهم بالبطولة والشجاعة..
وقف الشاب على السيارة وهتف:
- الله أكبر.. الله أكبر..
ردد الأهالي من بعده التكبيرات بفرح، ثم ابتعد هو وأصحابه الثلاثة، دون أن يشعر بهم أحد..
وسط التكبيرات اقتربت مجموعة من الشباب وحاولوا فتح السيارة لكنهم لم يستطيعوا، فأشعلوا النار في السيارة، كانت ألسنة اللهب ترتفع في الهواء فتختلط مع زفرات الأهالي، كأن نيران السيارة هي نيران قلوبهم التي صنعها المحتل بقتله الأهالي وتدميره البيوت في القصف اليومي..
كانت مجزرة السوق ماثلة في أعين أهل الفلوجة لم يمض عليها يوم واحد، وكان هناك شهيد في كل بيت، فبدا أن هذا انتقام لهم جميعاً..
تقدمت مجموعة غاضبة من طلاب مدرسة إعدادية، وكل منهم قد فقد أخاً أو أختاً أو قريباً، أو تهدّم بيته، واقتربوا من السيارة بعد أن هدأت نيرانها قليلاً، فأخرجوا الجثث وعلقوها على جسر الفلوجة، كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي يشعرون فيها أنهم قد آذوا الأمريكيين، رغم أن تعليق الجثث لا يساوي قتل أطفال الأهالي ونسائهم، ولا يساوي الاعتقالات العشوائية التي تحصد كل من تصل إليه يد المحتل فيُلقى في المعتقلات ولا يدري عنهم أحد، ولا يساوي كذلك تعذيب الأحياء الذي يتم داخل المعتقلات، بعيداً عن أعين الناس فيقومون بما تقشعر له الأبدان وتفزع له القلوب..
************************************************************
في إحدى القواعد الأمريكية، وفي قاعة الاجتماعات، كان الغضب بادياً على الوجوه، وهم يناقشون ما حصل وأحدهم يلقي اللوم على الآخر، ثم صمت الجميع عندما دخل القائد الأعلى للقوات الأمريكية جون، وترأس الاجتماع، حيث طلب من أحد الضباط أن يلقي على مسامعه تقريراً عن الحادث، وبعد أن انتهى التقرير قال:
- جنرال مايكل ألم تعرف أهمية المهمة التي عُهِدت إليك؟
امتقع وجه الجنرال، لكنه حاول التماسك وقال:
- سيدي.. كنت أعرف، وقد كلفت رجالي بتزويدهم بأحدث الأسلحة، وقد استخدموا أفضل سيارة مصفحة لدينا، واستخدموا التمويه حتى يبدو كأنهم من وكالات الإغاثة، فارتدوا الثياب المدنية، ولم تكن السيارة سيارة عسكرية، كما أني لم أرسل معهم سيارات حراسة حتى لا ألفت النظر إليهم، واعتمدت على كونهم جنوداً مدربين بل ومن الموساد، واستغرب كيف استطاعوا التغلب عليهم.
صمت الجنرال مايكل، فساد سكون ثقيل، ثم قال الجنرال جون:
- فسّر إذن ما حدث.
قال الجنرال مايكل وقد أعد عدته لهذا السؤال:
- سيدي.. يبدو أنهم أخطأوا.. فقد علمنا من التقارير التي وصلتنا أنه تم تبادل إطلاق نيران بينهم وبين المقاومين، ويبدو أنهم فتحوا نوافذ السيارة، كان هذا خطأً حتى لو أنهم فتحوها قليلاً فقط للتصويب، وقد كان الأولى بهم أن يتحصنوا في السيارة، وينطلقوا بها على الأرصفة ما داموا قد وقفوا بسبب الزحام، لكنهم لم يفكروا جيداً وسهلوا على الإرهابيين قتلهم، وربما لم يصدقونا عندما أخبرناهم وحذرناهم من الفلوجة وبأنها أرض الموت..
بدا الامتعاض على وجهه الجنرال جون وضرب الطاولة بقبضته في غضب وقال:
- وهل تريدني أن أقول هذا الكلام للسيد وزير الدفاع؟ هل هذا ما تريدنا أن نقوله للإسرائيليين؟ رجالكم أخطأوا، ونعتذر لأننا أخفقنا في حمايتهم! هل تريدني أن أقول هذا؟
ارتبك الجنرال مايكل قليلاً لغضب الجنرال جون، لكن عينيه التمعتا وهو يبتسم بخبث ويكمل إجابته التي خطط لها:
- لا يا سيدي.. لدي اقتراح آخر.. ما رأيك أن تقول لهم أن من قتل الجنود الأربعة هم جماعة أبو مصعب الزرقاوي؟
ساد الصمت في المجلس، وبدا أن اقتراح الجنرال مايكل قد فاجأهم لكنه لاقى قبولاً من الجميع فقال أحد الجنرالات:
- سيدي إذا سمحت لي..
فقال الجنرال جون:
- هات ما عندك جنرال ستانلي.
قال الجنرال ستانلي:
- سيدي.. إلقاء التهمة على الزرقاوي وجماعته لن يبرر فقط موقفنا أمام إسرائيل، بل ونستطيع استخدام فكرة القبض على الزرقاوي للقيام بعملية عسكرية للانتقام لهؤلاء الجنود، وللقبض على أبو مصعب الزرقاوي، وبذلك نلقن أهل الفلوجة درساً لن ينسوه، ونحكم قبضتنا على جزءٍ مهمٍ من العراق..
كان الجنرال جون ينقر الطاولة بإصبعه في رتابة، وفجأة توقف عن ذلك وانبسطت ملامح وجهه وقد بدا عليه الارتياح وقال:
- فكرة لا بأس بها، سنُخضعها للدراسة، أما الآن فأريد أن يتم التحقيق مع كل من كانت له علاقة بهؤلاء الجنود، لمعالجة هذا التسرب الخطير جداً في المعلومات، وأريد نتائج التقرير على مكتبي خلال ثلاثة أيام على الأكثر.
ثم نهض وغادر القاعة، التي انفجرت بالتعليقات بعد مغادرته، والجميع يناقش الفكرة التي طًرحت في الاجتماع، وبعد يومين، جاءت الأوامر بتنفيذ الخطة، وحشد جيش كبير لمقاتلة الفلوجة، التي صمدت في المرة الأولى، وكانت الأوامر تنص على عدم ادخار جهد في الوصول إلى أبو مصعب الزرقاوي، بقتل كل حي يتحرك، واستخدام جميع أنواع الأسلحة إذا ما احتاجت القوات لذلك، وبالنسبة للجنرال مايكل، فقد كانت الحاجة لاستخدام كل أنواع الأسلحة قائمة منذ اللحظة الأولى للحرب..


************************************************************

كانت نجلاء تذهب إلى الحضانة كل يوم قرابة الساعة التاسعة، ويمر أياد عليها عند عودته من عمله ليرجعها معه إلى المنزل، تعلّقت نجلاء بالأطفال هناك، فكانت تحب سماع عائشة وهي تحكي، وتحب رؤية ياسر ومحمد وهما يلعبان وكذلك بقية الأطفال.. كانت أعمارهم مختلفة، ولكل منهم شخصية جميلة جذابة، كانت تحب تحلّقهم حولها وهم يستمعون إليها تحكي لهم القصص بشكل مبسط، وتحاكي أحداث القصة بأصوات وحركات..
وذات يوم وبينما هي تراقب وجههم المتعلّقة بها، حيث عيونهم التي اتسعت من الخوف على العصفور من القط، وضحكاتهم التي انطلقت بسعادة فرحاً لنجاة ليلى من الذئب، دوى صوت انفجار هائل أحال ضحكاتهم البريئة إلى صراخ خائف مرتعب، توترت نجلاء، فليست المشكلة في صوت الانفجار الذي كان الجميع معتاداً عليه، إنما بسبب قرب الصوت وشدته، كان الأطفال يصرخون ويركضون في كل اتجاه، وقد جاءت أم حارث لتساعد نجلاء في تهدئة الأطفال، وإلهائهم ببعض الأناشيد التي بدأ بعض الأطفال ترديدها مع نجلاء وأم حارث، وبدأت البسمات ترتسم على الوجوه، وأيديهم الصغيرة تكفكف دموعهم، وصوتهم يتعالى يحاول أن يطغى على صوت الطائرات والقصف، لكن صوت الطائرة الحربية المنطلقة عاد ليدوي قريباً من الحضانة وليدوي بصوت قوي جداً، جعل الأرض تهتز من تحتهم، وزجاج بعض النوافذ يتطاير متحطماً من مكانه، متناثر على بعض الأطفال، الذي ازدادوا رعباً وصراخاً مطالبين بأمهاتهم، حاولت أم حارث ونجلاء احتضانهم وتهدئتهم، وهما تفكران فيما يجب أن تفعلاه، إذ يبدو أن القصف متركز اليوم على منطقتهم هذه بالذات، إذن ليس من الحكمة الخروج من الحضانة، وانقسم الأطفال إلى مجموعتين إحداهما مع أم حارث والأخرى مع نجلاء، وكلتاهما تحاول جهدها في تهدئة الأطفال وبث الطمأنينة في قلوبهم.
عادت الطائرة من جديد تئز فوق المنزل، وازدادت صرخات الأطفال عندما انفجر حائط المنزل كاملاً فأَخمد بعض الصرخات البريئة، وازدادت الصرخات الأخرى ارتفاعاً، والحجارة المتناثرة من الحائط تضرب الجميع والأطفال الذين تحاول نجلاء أن تغطيهم بجسدها، بينما ارتفعت ألسنة نيرانٍ قوية تلفحهم، رفعت نجلاء رأسها بحذر لترمق الطائرة المعتدية وهي تبتعد، ونجلاء تتابعها بنظرات الغيظ من فتحة السقف الكبيرة التي خلّفها الانفجار، رأت نجلاء النيران وجداراً يكاد ينهر من أثر الضربة، كانت مجموعتها الأبعد عن الانفجار، كانوا بخير تقريباً، كان بعض البكاء والصراخ يخرج من الغرفة الأخرى وربما بعضه من تحت الأنقاض، لكن قبل أن تفعل أي شيء يجب أن تخرج الأطفال الذين معها إلى الخارج قبل أن ينهار الجدار، أخذت تدفعهم أمامها وهي تطبطب على أكتافهم ورؤوسهم، وما إن أصبحت في حديقة منزل أم حارث حتى رأت أمامها بعض الرجال والنساء الذين جاءوا بعد أن هدأ القصف، وسمعوا بل ربما رأوا الضربة التي أصابت منزل أم حارث الذي يعرفون أنه حضانة، تركت الأطفال في حماية بعض السيدات ثم عادت مع الذين دخلوا ليطفئوا النار وليروا إن كان من أحياء بالداخل، لم تتمالك نفسها وهي ترى يداً صغيرة تخرج من تحت أنقاض الحائط، فانهمرت دموعها بحرقة، تابعت بحثها وهي تنادي أم حارث، وبعد أن أزاح الرجال ركاماً كان يغلق فتحة باب الغرفة التي يُسمع منها الأصوات المستنجدة، اندفعت إلى الغرفة لتبحث عن الأطفال كأنهم أولادها، وجدت بعضهم جالساً قرب الركام يبكي، فاحتضنتهم جميعاً وأخرجتهم وهي تحاول أن تبعد نظرهم عن الأشلاء المحترقة التي بدت بعد إطفاء النيران، وعندما سلمتهم للنساء الواقفات بالخارج، عادت لتحاول المساعدة في إخراج طفل يبدو لهم صوته من تحت الأنقاض، تعرفت فيه صوت ياسر فأخذت تحدثه وتصبّره، وحاولت النظر علها تجد أم حارث في مكان ما، لكنها لم تجد لها أثراً، وبعد عدة محاولات استطاعوا إخراج ياسر، الذي احتضنته نجلاء بفرح على نجاته، ودموعها تغرق خديها، ثم لمحت قدم أم حارث، لابد أن تكون قدمها فهي أكبر من أقدام الأطفال، كانت محترقة ممزقة، شهقت نجلاء، وأغمضت عينيها مخفية رأس ياسر في صدرها وهي تُخرجه إلى الحديقة، فجاءتها الطفلة عائشة وقالت لها:
- ست نجلاء.. ست نجلاء.. أين محمد وست وداد؟
انحنت نجلاء لتقابلها وهي تغالب حرقة قلبها ودموعها المنهمرة، لتقول:
- في الجنة.. هم في الجنة.. إن شاء الله..
غصت كلماتها الأخيرة في دموعها واحتضنت عائشة محاولة بث الطمأنينة في القلوب الصغيرة البريئة، ثم عادت إلى الداخل علها تكون مخطئة..

************************************************************

كان أياد جالساً في مكتبه عندما بدأت الغارة، وبدأت الإنفجارات ترتفع، ثم سكنت بعد ربع ساعة من القصف المدمر، عندما سمع أحد زملاءه في العمل يقولون:
- الحضانة قُصفت.. الحضانة.. أولادي هناك..
خفق قلب أياد بشدة وهو يستمع لهذه الكلمات قبل أن يسأله:
- ولكن.. جمال.. من أين عرفت؟
كان جمال يخرج من الغرفة مسرعاً فتوقف للحظة وقال:
- أم هيثم قريبتنا جارة الحضانة اتصلت وأخبرتني ولكنها لم تعرف شيئاً بعد عن أولادي.. يارب سلّم.. يارب سلّم..
وانطلق عبر الممر إلى سيارته..
خفق قلب أياد، فعروسه وشريكة حياته وأم أولاده المستقبليين هناك، انطلق مسرعاً خلف جمال، وركب سيارته متجهاً إلى الحضانة، وقلبه يرتعد خوفاً، لا يريد مجرد التفكير أنه قد حصل لها شيء، تذكر أول مرة رآها فيها، كيف رآها محجبة حجاباً سابغاً، محترمة، تمضي في طريقها، غاضة للبصر، تبعها حتى عرف بيتها، ورجع يخبر أمه أنه يريد أن تخطب له، تذكرها وهي ترفل في فستانها الأبيض وتمشي كالأميرات، تذكر رحلتهما معاً إلى آثار سامراء، جولتهما، كلماتها، نقاشهما حول تاريخ الآثار، تذكرها كل يوم توقظه قبل صلاة الفجر ليصليا قيام الليل، وتراءى له وجهها الملتف بغطاء الصلاة الأبيض كسحابة بيضاء تحوط القمر..
كان يسابق الزمن للوصول إلى الحضانة التي ما أن أصبح قريباً منها نوعاً ما حتى بدا أن الطريق مسدود، ترك سيارته وهو يسمع سرينات سيارة الإسعاف، انطلق يعدو على الرصيف وهو يشاهد الدماء هنا وهناك، وبعض السيارات المحترقة التي يرشها الموجودون بالماء، انقبض قلبه خوفاً، وتزايدت سرعته حتى وصل إلى الحضانة واقتحم بابها الخارجي مندفعاً يبحث عنها بعينيه، سأل بعض الواقفين فلم يعرفوها، أسرع إلى المنزل يحاول دخوله إلا أن بعض الرجال كانوا يعدون خارجين منه ومن خلفهم يدوى صوت هائل، ظنه أياد انفجاراً آخر إلا أنه سمع كلامهم وهم يقولون:
- وقع الجدار عليهم..
- كان سيقع في أي لحظة.. فقد خلخله الانفجار..
- الله يرحمهم.. يجب أن نستعين بالآلات لنخرجهم..
سقط قلب أياد بين قدميه، وهو يصرخ:
- أرأيتم امرأة؟ امرأة متوسطة الطول، بيضاء، عيناها عسليتان.. أما رأيتموها؟
رد عليه أحدهم:
- أنا رأيت امرأة لكني لم أميز شكلها تماماً، فقد سقط الجدار مباشرة عندما لمحتها.. الله يرحمها ويرحم الجميع.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. الله يصبّرك..
انهار أياد.. سقط على ركبتيه.. لم يعد قادراً على الوقوف.. لقد تحقق أسوأ مخاوفه.. شعر بأن الدنيا تظلم في وجهه.. غطى وجهه بكفيه.. ولم يقدر على منع تلك العَبَرات التي تسللت من عينيه.. لقد فقد فجأة كل ما بناه وسعى من أجله.. كل عمله الإضافي واجتهاده.. كل أحلامه وأمنياته.. أولاده.. الطبيب والمهندس والمعلمة.. وزوجته التي ترعى كل ذلك وتكلله كملكة..
انتهى كل شيء بسبب هؤلاء الأوغاد..
أمريكا التي لا عمل لها سوى نشر الإرهاب في العالم.. أليس الإرهاب قتل الأبرياء؟؟ أليس قصف الحضانة وقتل الأطفال الأبرياء إرهاباً؟ أليس ترويع الآمنين وتدمير البيوت إرهاباً؟؟ أليس الاحتلال بكل أشكاله إرهاباً؟!!!
اضطرمت النار في قلبه.. فهاهي أمريكا تنتزع منه زوجته الغالية.. بعد أن انتزعت الأمن والسلام.. وبعد أن انتزعت وطنه الحبيب..
شعر أنه لا بد أن يفعل شيئاً.. لابد أن ينضم لعبد الستار ولطفي وإبراهيم.. كلهم يحملون السلاح ليدافعوا عن أرضهم وشرفهم.. لا يقتلون سوى الأمريكيين.. ويحافظون على الأمن والاستقرار بعد سقوط الدولة..
لابد أن ينضم إليهم.. ويتعلم القتال.. ويقاتل.. يقاتل لينتقم لنجلاء الحبيبية..
صرخ وهو يثب من سقطته:
- نعم.. لابد..
لكن من اصطدمت به عيناه كان آخر شخص يتوقعه.. كان نجلاء.. نعم لابد أنها هي.. كانت تحمل طفلاً مصاباً في قدمه إلى المسعفين..
تقدم منها فتراءت له.. نجلاء الجميلة.. الزوجة الحبيبة.. على قيد الحياة.. انطلق إليها وهو ينادي:
- نجلاء.. نجلاااااااااء..
التفتت إليه والسعادة تتلألأ في وجهها، وناولت الطفل للمُسعف وابتسمت لأياد وقالت:
- هل أتيت لتطمأن عليّ؟
كانت السعادة قد ألجمته.. فتردد لحظة ثم سألها:
- تلك المرأة في الداخل.. من هي إذن؟
أطرقت نجلاء برأسها أسىً وقالت:
- أم حارث.. رحمها الله..
ثم استدركت وهي تنظر في عينيه:
- هل ظننتني أنا هي؟
نظر إليها ليتأكد من أنها أمامه وقال:
- نعم.. ظننتك..... ولكن لا.. الحمد لله أنك بخير.. ولا داعي لأن أعود لظني السابق.. هل أنت بخير؟
ثم نظر بجزع إلى دماء تلوث ثيابها وقال:
- ما هذه الدماء؟ أنت مصابة؟
قالت بحزن:
- إصابات خفيفة.. لكن الدماء هي دماء بعض الأطفال.. الأطفال الذين أحبهم.. فقد أصيبت زهراء وشمس لكنهما بخير والحمد لله.. أما محمد.. محمد ذو السنوات الخمس، الذي كنت أخبرك أنه كان يجمع مصروفه على أمل أن يستطيع أن يشتري نعالاً لأمه التي تعمل طوال اليوم، محمد وزينب استشهدا تحت الحطام مع أم حارث، كان المنظر رهيباً، يا إلهي.. أياد أنت لم ترَ أشلاءهم.. لم تر الدماء..
أمسكها أياد من كتفها، وقال وهو ينظر إلى وجهها محاولاً التخفيف عنها:
- طيور في الجنة.. لا تنسي أنهم طيور في الجنة..
أومأت برأسها وقالت:
- نعم إن شاء الله.. الله يعين أهلهم.. أريد أن أتأكد من وصول الأطفال إلى أهاليهم، معظم الأهالي قد أخذوا أطفالهم.. لكن يجب أن أبقى مع الباقين..
ربت أياد على كتفها وقال:
- وأنا معك.. هيا.. من بقي؟
تأكدت نجلاء من وصول الأطفال إلى أهلهم، وحاولت التخفيف من آلام أهالي الشهداء.. عادت إلى المنزل مع أياد.. وفي قلب كل منهما أمل كبير..
أمل بأن هذا الاحتلال مجرد كابوس..
كابوس سينجلي مع استمرار المقاومة..

يتبــــــــــــــــــــــع .............

 

© Copyright يـوميـات مغتـربة . All Rights Reserved.

Designed by TemplateWorld and sponsored by SmashingMagazine

Blogger Template created by Deluxe Templates