حُشدت جيوش جرارةٌ للقتال في الفلوجة، كان الجيش المحيط بالفلوجة يكفي لاحتلال العراق كاملة، وكانت ترسانة السلاح تحتوي على كل ما أنتجته مصانع السلاح، حتى الأسلحة النووية والكيمائية والمحرمة دولياً..
وانتشرت المنشورات في الشوارع والبيوت، تدعو أهالي الفلوجة للتعاون وتسليم الزرقاوي، حفاظاً على أنفسهم وأهلهم، ولسان حال الناس يقول:
- وأين هو هذا الزرقاوي؟ ولمَ لم نره أبداً؟!
حاول رؤساء العشائر التفاوض مع القوات الأمريكية، لكن الشرط الأوحد كان هو تسليم الزرقاوي.. لم يكن للزرقاوي وجود في الفلوجة، فرجال المقاومة هم شباب الفلوجة أنفسهم، الذين أبت نفوسهم الأبية العيش في ذل وهوان، فرفعوا سلاحهم ليدافعوا عن أرضهم وبلدهم ودينهم وأعراضهم، وليطردوا المحتل من بلادهم الحبيبة..
سلاحهم الذي كان بسيطاً مقارنةً بالدبابات والمدافع التي جاء بها الجيش الأمريكي، هذا بالإضافة للطائرات، فأكبر سلاح لدى شباب الفلوجة هو الآر بي جي.. كانت حرباً غير عادلة.. لكن الشباب تسلحوا بالإيمان والثقة بنصر الله..
كانت طائرات المحتل تجول في سماء الفلوجة، وتطالب عبر مكبرات الصوت بتسليم الزرقاوي، كما كانت تُسقط قنابل صوتية على المدينة لتثير فزع الأهالي واضطرابهم..
كانت الفلوجة محاصرة ولم تعد المؤون تكفي من في المدينة، والمحال أُغلقت لعدم وجود بضائع، وبدأت تحركات الجيش، ومع اقترابه أكثر من الفلوجة بدا أن الحرب وشيكة وأنها ستقوم بسبب أو بدون سبب..
كان الحل الأمثل هو الخروج من الفلوجة، وبدأت قوافل العائلات تنساب عبر المدينة، النساء والأطفال والشيوخ..
كل من كان يستطيع الخروج من الفلوجة ويعرف أحداً خارجها يستطيع اللجوء إليه، أخذ عائلته وخرج من المدينة..
كان الطريق من الفلوجة إلى بغداد لا يتجاوز خمساً وأربعين دقيقة، إلا أن القوات الأمريكية المحيطة بالفلوجة جعلت الطريق يطول لمدة اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة ساعة، كانوا يوقفون العوائل ويأمرونهم بالخروج من السيارة، ثم يتركوهم على هذا الحال هذه الساعات، دون ماء أو طعام، ويدفعون الأسلحة في وجوههم لبث الرعب في قلوبهم، ثم يتركوهم يمرون بعد ساعات العذاب الطويل..
لم يبق في الفلوجة سوى العائلات التي لا مكان لها خارج الفلوجة تلجأ إليه، فقبعوا في بيوتهم..
كانت عائلة الحاج أبو عماد مجتمعة في غرفة المعيشة تناقش الوجهة التي سيتخذونها عند خروجهم من المدينة، كان الشباب الثلاثة يريدون البقاء في المدينة ليساعدوا شباب المقاومة في الدفاع عن أرضهم، وقد واجهت رغبتهم هذه اعتراضات من والدتهم وأختهم ونجلاء وسندس، لكن الشباب كانوا مصممين، فقلوبهم تنبض بحب الوطن، ولا يمكن أن يتجاهلوا النداء، لكن كان لابد من إخراج النساء والأطفال وتأمين مكان لهم خارج الفلوجة، والد سندس الذي يعيش في بغداد عرض عليها المجيء عندهم، هي وزوجها وأولادها، أما الحاجة ساهرة فقد فكرت في ابن عمها طارق، فهي لا تعرف أحداً سواه خارج الفلوجة، كانوا يتناقشون عندما انتبهوا فجأة للحاج أبو عماد الذي كان بالكاد واقفاً يستند إلى إطار الباب وهو يقول:
- أنا لن أذهب لأي مكان..
قامت نجلاء بسرعة وأسندته ثم قادته إلى كرسي ليجلس عليه، فما أن جلس حتى قال عماد:
- أبي.. الأوضاع سيئة جداً ولن يبقى أحد في البلد تقريباً، فكل من يعرف أحداً خارج الفلوجة، أخذ عائلته وخرج، والذي يمتلك مالاً أخذ عائلته وأجّر مكاناً في بغداد أو في أي مكان خارج الفلوجة، وبعضهم خرج دون أن يعرف أين سيذهب، بقاؤكم لن يساعد بل سنقلق عليكم، ولن نكون أحراراً في تحركاتنا..
قال والده باستنكار:
- وتريدني بعد أن كبرت، وبعد كل هذا العمر، أن أخرج من داري فأتشرد في العراء أو أن ألتمس السُكنى عند هذا وذاك؟!!
قال عماد:
- لا يا أبي، فنحن والحمد لله نعرف أحداً في بغداد، أقصد عمي طارق، والذي لم يمانع في استقبالكم، بل قال أنه يستقبل الآن في بيته عائلة من الفلوجة.. الناس للناس يا أبي، وإن شاء الله لن تطول المدة ونعود لدارنا.
لكن والده هز رأسه رافضاً وقال:
- اذهبوا أنتم، أما أنا فأعمى، وكبير في السن، فلا أريد أن أخرج من داري التي ألفتها، ولا أن أثقل على أحد..
قالت الحاجة ساهرة وهي تضرب على صدرها:
- مستحيل.. رجلي على رجلك حجي، وحيثما تكون أكون، لن أذهب، سأبقى معك.
أخذ أياد يحاول إقناعها، وتساعده نجلاء، أما عماد فأخذ يناقش والده، ويحاول إقناعه، وكذلك فعل حازم، لكن الحاج أبو عماد أعلن أنه متعب وغير مستعد للكلام وسيذهب للنوم، ساعده حازم ليصل إلى غرفته، وعاد ليشارك في القرار، وبعد نقاش مطوّل اقتنعت الحاجة ساهرة أن تذهب من أجل نهلة، وعلى وعد أن أولادها سيقنعون والدهم ويلتحقون بهم في بغداد، وعائلة عماد ستذهب إلى بيت أهل زوجته، أما حازم وأياد ونجلاء سيبقون في الفلوجة، فلا بد من أحد يعتني بالحاج، وقد كانت نجلاء مصممة على البقاء معه حتى يقتنع، وإن كانت تخفي أمنية داخلية في أن تتسنى لها فرصة المشاركة في الدفاع عن مدينتها الحبيبة..
وهكذا ركب الجميع سيارة عماد، وكان وداعاً بسيطاً لأن الحاجة ساهرة كانت متأكدة أن زوجها سيقتنع خلال يومين، وسيلحقون بهم جميعاً في بغداد، وإن هي إلا أيام ويعودون جميعاً ليعيشوا في منزلهم مع بعضهم من جديد.
رافقهم أياد وحازم فعادت نجلاء وحدها للبيت وأحست بالفراغ، فالبيت قبل قليل كان عامراً بأهله، أما الآن فخاوٍ خصوصاً بعد رحيل أولاد عماد..
كان الوقت عصراً فاتجهت إلى غرفتها لتنقل بعض الأغطية والوسائد، فقد قرر أياد أنهما سينامان في غرفة المعيشة القريبة من غرفة والده حتى يكونوا في خدمته ويسمعوه إذا أراد شيئاً، وأحضرت معها كتاباً عن تريبة الأطفال، قرآناً، وشغل الحياكة الخاص بها، لتقضي وقتها، وحاولت شغل نفسها خلال انتظارها لأياد وحازم، فقامت بترتيب بعض الأشياء وتوزيعها.. حضرت بعض العشاء للحاج أبو عماد، وساعدته في تناوله، ثم جلست تنتظرهما..
عندما تقدّم الوقت، كان القلق يعصف بها، ما الذي أخّر أياد وحازم عن الحضور؟ كان عليهما فقط مرافقة الباقين إلى حدود الفلوجة، لكنهما تأخرا! أين تراهما ذهبا؟ أو ماذا حصل لهما؟
كانت تتنقل من نافذة لأخرى تحاول النظر إلى الشارع من زوايا مختلفة علها تراهم قادمين، كان الظلام قد لفّ الكون، لكن قلبها خفق بشدة حينما لمحت ظل سيارة تقترب، فانطلقت إلى الباب وفتحته تنظر عبر فرجته، وكم كانت فرحتها شديدة عندما وقفت السيارة أمام المنزل ونزلا منها، دخلا وألقيا عليها السلام وهما يلهثان، كانا يبدوان متعبين، اضطربت نجلاء وهي تنظر إليهما، وملابسهما ممزقة في بعض أجزائها، ووقعت عيناها على بقعة دماء على ساعد أياد، فاندفعت إليه تتفحصها، وهي تصرخ:
- ما الذي حصل؟ كيف جُرحت هنا؟ وما الذي حصل للباقين؟
ومن خلفها تناهى صوت الحاج وهو يقول:
- خير إن شاء الله.. خير إن شاء الله..
أجابها أياد وهو يجاهد ليلتقط نفسه:
- الجميع بخير.. لم يحدث لهم شيء..
قالت نجلاء بصوت مرتعد وكأنها لا تصدق:
- قل الحقيقة.. كلهم بخير؟ لم يُصب أحد؟
نظر إليها أياد بإجهاد وقال:
- أكيد.. أكيد.. سأحكي لك فيما بعد.. أريد بعض الماء.. أشعر بالعطش الشديد..
لكن الحاج سأله بقلق:
- قل يا ولدي ولا تخفي علينا.. قل الحقيقة.. أمك بخير؟ أختك؟ أخوك؟ أولاد عماد؟
ابتسم أياد وقال:
- نعم.. كلهم بخير.. والله العظيم هم بخير..هه صدقتموني؟
أومأ الحاج برأسه وقال:
- الحمد لله.. الحمد لله..
ركضت نجلاء وأحضرت ماء وكأسين وقدمت لهما، ثم أحضرت بعض المواد المطهرة وأخذت تداوي جرح أياد وهي تسأله:
- ولكن كيف أُصبت؟ هل هاجموكم وأنتم ذاهبون أم وأنتم راجعون؟
قال أياد والانهاك بادٍ على محياه:
- نجلاء أنا ميت من الجوع، بعد أن آكل سأحكي لك كل شيء.. اتفقنا؟
ابتسمت نجلاء باعتذار وقالت:
- بالتأكيد جائعان، فلم تأكلا منذ العصر والساعة الآن تقارب منتصف الليل..
ذهبت إلى المطبخ لتحضر لهما شيئاً يأكلانه، ولما لم يبق الكثير من المؤون، بعد الحصار الذي ضُرب على الفلوجة، كانت نجلاء قد حضرت ما وجدته ليتناولوه فوضعت بعض الجبن وأخرجت علبة المربى الأخيرة من المخزن، وما بقي من الخبز الذي خبزته صباحاً الحاجة ساهرة، حضّرت بعض الشاي ثم ذهبت بالعشاء إلى حيث جلس أياد وحازم في غرفة المعيشة لكنها وجدت أياد قد نام، فقدمت العشاء إلى حازم وذهبت لتحضر غطاءً تغطي به أياد، ثم جلست قبالة حازم وقالت له:
- أخبرني ما الذي حصل؟
ضحك وقال:
- يا زوجة أخي ألن تتركيني أتناول الطعام فقط؟
فقال الحاج:
- إن كانت هي ستنتظر أنا لن أنتظر.. لماذا جُرح أياد؟ كيف؟
نظر إليهما حازم وقال بانصياع:
- حسناً.. أولاً أرجوكما ألا تقلقا فعلاً، فقد أوصلنا الجميع إلى الحدود بسلام، وإن شاء الله سيكلموننا عندما يصلون إلى بغداد ليطمئنونا، فأنت تعرفين أن قوات الاحتلال تعرقل كل الخارجين من الفلوجة..
قاطعته بلهفة وقالت:
- الحمد لله أنهم بخير، لكن لم أنتم متعبون، ولم هذا الجرح في ساعد أياد؟
نظر بإشفاق ناحية أخيه وقال:
- بعد أن أوصلناهم، اقترحتُ أن نذهب مباشرة إلى قائد شباب منطقتنا الأخ عبد المحسن، لنعرف كيف سنساعدهم، وكيف سنتصرف في الأيام التالية، وعندما يبدأ الاقتحام، فالمقاومة منظمة الآن وهم يضعون الخطط ويرتبون توزيع السلاح، وعندما وصلنا إلى عبد المحسن بدا كأنه ينتظرنا، قال أنه فعلاً بحاجة إلى شباب لإحضار بعض السلاح الذي هرّبه بعض الإخوة سابقاً ولم يستطيعوا إحضاره في ذاك الوقت لأن جنود المحتل كان قد كثفوا المراقبة في تلك المنطقة، فأخفوه بجانب النهر، وكان دورنا فقط أن نحضره من هناك، كانت مهمة بسيطة، ذهبنا ومعنا عبد العزيز أحد الشباب الذين أخفوا السلاح، ووصلنا إلى هناك، وحملنا الصناديق إلى السيارة، وعندما كنا ننقل آخر الصناديق سمعنا صرخة ويبدو أنهم تنبهوا لوجودنا، فقد أمطرونا بالرصاص، عندها أصيب أياد..
نظرت ناحية أياد بحزن وهي تقول:
- الحمد لله على سلامتكما، والحمد لله أن جرح أياد ليس خطيراً، لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟
ابتسم حازم في إنهاك وقال:
- الحمد لله.. استطعنا الوصول للسيارة والانطلاق بها، بعضهم حاول أن يتبعنا، لكنهم لم يستطيعوا التوغل في الفلوجة، حيث بدأ إطلاق الرصاص من بعض الشباب المرابطين على حدود الفلوجة..
التمعت عيناه جذلاً وهو يتابع:
- أشعر بالسعادة في روحي وقلبي لأني ساعدت في إحضار السلاح، لقد أخبرنا عبد المحسن أن نبقى في منازلنا، وأن نخرج للقتال فقط إذا حصل اشتباك في المنطقة، لا تعرفين كم هم منظمون، لقد رأيت سالم هناك، وعدنان، ومحمد وعبد القادر، والكثير ممن نعرفهم من جيراننا ومعارفنا، وقد قسّم عبد المحسن المهام على الجميع..
قالت نجلاء بحزن:
- ألا يوجد دور لي؟
سمعت صوت أياد الذي استيقظ وهو يقول:
- نعم بالطبع.. أنت تعتنين بوالدي..
ضحكت ونهضت قائلة:
- الحمد لله على سلامتك.. هل أحضر لك العشاء؟
نظر أياد لها بامتنان وقال:
- نعم إذا سمحت.. فأنا لا أعرف كيف غفوت وأنا جائع لهذه الدرجة.
ضحكت واتجهت إلى المطبخ لتحضر له العشاء.. في الأيام التالية كان القصف يتكرر مرتين يومياً.. كان الجميع يجلسون في غرفة المعيشة، وكل واحد منهم يحاول قطع الصمت بإثارة موضوع ما، غير أن الموضوع كان ينتهي بسرعة مخلفاً صمتاً ثقيلاً، حاول أياد مناقشة والده في موضوع ذهابه إلى بغداد غير أنه كان رافضاً وبشدة..
ذات مساء جلست نجلاء لقراءة كتابٍ وهي تنظر للساعة كل حين، حيث يبدو أن الوقت لا يمضي، وعقارب الساعة ثابتة، كم تفتقد سندس ونهلة، كانوا دائماً يختلقون لعبة ما، أو تتحدث مع سندس أحاديث لا تنتهي عن الأولاد، والتربية، والخياطة والتطريز وقراءة الكتب، وهي الهوايات التي كنّ يتشاركن فيها.
كان أياد يرسم بعض المخططات المطلوبة في عمله، ففرع الشركة في بغداد لم يتوقف عن العمل كفرع الفلوجة، ولا يزالون يحتاجون له، فتركته نجلاء لعمله.. ووقفت بجانب الشباك تنظر منه إلى المدينة الحبيبة، والهدوء يلفها، لا أصوات أو أضواء، نسمات هواء بسيطة تهب فتحرك سعفات النخيل التي كانت ظلالها تتراءى عبر ضوء القمر الذي يضفي ضوءه الفضي على البيوت وحدائقها..
كانت تسمع بعض الكلمات من حديث أياد وحازم المتقطع عندما شاهدت ضوءاً برّاقاً أضاء السماء، فأعماها عن الرؤية لحظات، تبعه صوت انفجارٍ شديد قطع كل حديث، ما عدا صرخة نجلاء، التي امتقع وجهها خوفاً وفزعاً، فانطلق أياد إليها وسحبها ليجلسا إلى جانب والده الذي كان يبسمل ويحوقل، وتبع هذا الانفجار سلسلة من الإنفجارات القوية التي كانت ترج الأرض رجاً، كان الجميع يذكرون الله، ويسبحونه ويستغفرونه، ولمدة ساعتين كاملتين لم يتوقف القصف، وفجاة هدأ كل شيء، فجأة كما بدأ، لم يصدق أحد أن القصف انتهى حتى مرت ربع ساعة، عندها نظر بعضهم إلى بعض في رعب، فقد كان هذا القصف يعني أن الحرب قد بدأت ولا هدنة هنالك.. وأنه لم يعد من مجال للذهاب إلى بغداد..
كان الجميع يظن أن الجيش سيقتحم الفلوجة وربما يفتشون البيوت بحثاً عن الزرقاوي، لكن أن تُدار الحرب من بعد عن طريق القصف والصواريخ فهذا ما لم يظنه أحد، إذ أنه يعني أن الجيش الأمريكي لا يبحث عن الزرقاوي، بل يهدف إلى هدم الفلوجة كاملةً، وقد تأكدوا من هذا عندما استمر القصف من جديد بعد نصف ساعة، واستمر الحال لمدة ثلاثة أيام، حتى تخيلت نجلاء أنه لم يبق بيت في الفلوجة لم يسقط الآن سوى بيتهم الذي حفظه الله بدعائهم المستمر..
كانوا يصلون وهم جلوس، أو في فترات انقطاع القصف، وفقد الجميع شهيتهم لأي طعام، فلم يكونوا يأكلون سوى القليل الذي يقيم أودهم.. كانوا يستغفرون الله ويذكرونه ويدعوه في كل دقيقة..
كان حازم يريد أن يعرف ما الذي يجري في الخارج، فقد كانوا أحياناً يسمعون بعد القصف بكاءً وصراخاً، لكن لا أحد يستطيع الخروج من داره..
في اليوم الرابع من بداية القصف، وعندما أشرقت الشمس، توقف القصف على غير عادته في الأيام الفائتة، توقف لمدة ساعتين كاملتين، فخفقت قلوب الجميع أملاً في الفرج أخيراً، وكان حازم يطل من النافذة يحاول معرفة الوضع في الخارج، كان متحمساً وهو يشرح الأدلة على أن القوات انسحبت، ثم رأى جارهم سعيد وهو يمد رأسه خارج الباب ليتأكد أيضاً من أن الأمان المفقود قد عاد للمدينة، وبعد لحظات وبصوت مكتوم، سقط سعيد على الأرض غارقاً في دمائه.
ذُهل حازم، وصمت فجأة بعد أن كان يتحدث، فانطلق إليه أياد ومد رأسه ليطالع ما كان حازم يراه وقال:
- ما بك؟ هل رأيت شيئاً؟
ثم سكت هو الآخر عندما رأي جنوداً أمريكيين يبرزون من خلف المنعطف، ووقعت عيناه على جارهم فصرخ:
- الجبناء.. ماذا يريدون الآن؟ هل سيمرون على كل بيت ليقتلوا من فيه؟
ابتعد هو وحازم إلى جانبي النافذة وهما يراقبان، وكانت نجلاء تنظر إليهما في جلستها بقرب عمها، وقد انعقد لسانها من الخوف، وكان الجنود يتقدمون مع دبابة كبيرة، ويفتشون بأعينهم عن كائن حي ليقتلوه..
كان بعضهم ينفصل عن المجموعة ويقفون على مسافات متباعدة على طول الشارع، انطلق حازم إلى زاوية الغرفة ليخرج سلاحه الذي أعطاهم إياه عبد المحسن، لكن أياد وضع كفه على كتف أخيه وهو يقول:
- لن تخرج.. حازم.. هذا ليس اشتباكاً..
نظر إليه حازم وقال:
- ولكن..
قاطعه أياد وكلامه يقطر حزناً:
- هذا اقتحام.. لن تستطيع فعل شيءٍ بمسدسك البسيط هذا.. ألا ترى أعداد الذين دخلوا؟ ولكن أين عبد المحسن؟ أين الشباب؟ هل حصل لهم شيء؟ أم أنها خطة لاستدراجهم لمكان ما؟
أطاع حازم أخاه، وعادا إلى النافذة يتابعان الدبابة حتى اختفت عن ناظريهما..
عادا يجلسان على الأرض، والقلق يغلي في أعماقهما، أما حازم فقد انزوى بعيداً عنهم، حيث بدا مصدوماً من مقتل سعيد، لمجرد أن أطل من الباب، وتخيل وقع الخبر على أهل سعيد الذين رأوه بالتأكيد وهو يموت أمام أعينهم دون أن يستطيعوا مساعدته أو حتى دفنه، فخلال الأيام التالية، بقي سعيد كما هو، وكما سقط، دون أن يستطيع أحد أن يفعل لجثمانه شيئاً..
كان الجنود لا يزالون يطوقون البيوت، فهم يتغيرون ويغيرون أماكنهم، لكن المكان محاصرٌ ولا سبيل للخروج من المنزل، وكان القصف مستمراً في أماكن بعيدة حيث يصل صوت الانفجار خافتاً، كان البرد يزداد شدة، وحتى داخل المنزل كان البرد شديداً إذ لم يبق غاز يكفي لإشعال المدفأة رغم اقتصادهم الكبير في استعمالها، وعندما حل المساء أصبح الجو أكثر برودة، كان برداً قارساً يتجاوز الجلد واللحم لينخر العظم رغم كل الطبقات التي تدثروا بها، وكانت رياحٌ شديدة البرودة تعبر النافذة المغلقة من خلال شقوقها الصغيرة، فقام حازم وبحث في البيت عن ورق ( كارتونة ) ليغطي بها النافذة التي تأتي بالزمهرير من الخارج، وأخيراً وجد واحدة، فاتجه إلى النافذة ليثبت الورقة عليها، وما إن أزاح الستارة حتى سمع أياد ونجلاء والحاج صوت تحطم زجاجٍ، ثم صوت رصاصة مدوية، توقف حازم عما كان يفعله، وتشنجت حركاته، استند على النافذة ثم سقط وهو يطلق همهمات خافتة، لم يدم ذهول الباقين سوى لحظات أطلقت فيها نجلاء صرخةَ رعبٍ، وصرخ أياد وهو ينطلق إلى أخيه:
- حازم.
وفي اللحظة التي وصل فيها إلى أخيه، دوت رصاصات أخرى عبرت النافذة المحطمة لتخترق رقبة أياد وصدره فتناثرت دماؤه وسقط مباشرة فوق أخيه، صرخت نجلاء بأعلى صوتها، وصرخت وصرخت وهي تبكي، ثم زحفت إلى حيث زوجها وسحبته من فوق أخيه، وأخذت تربّت على خده وتكلمه:
- أياد.. أياد.. حبيبي أياد.. أياااااااااد..
أخذت تبكي في حرقة وهي ترى الدماء الحارة تندفع من رقبته وصدره لتغرق الأرضية حولها، ونظرت باتجاه حازم، والدماء تغرق صدره، فوجدته مفتوح العينين وقد فارقتهما الحياة..
أخذت نجلاء تبكي وتبكي وهي تحتضن جثة زوجها، الجثة التي كانت منذ لحظات نابضة بالحياة، كانت تبكي دون توقف، وتصرخ.. تصرخ ألماً وحزناً، ثم التفتت إلى الحاج فوجدت عينيه المغلقتين تسكبان الدمع مدراراً، وضعت نجلاء رأسها على صدر جثة زوجها، لم تعد تتمالك نفسها، لقد فقدت في لحظة شخصين عزيزين، فقدت زوجها الحبيب، زوجها منذ خمسة أشهر فقط، زوجها الذي أحبته بكل قلبها، وملأ حبه قلبها وحفظته بين ضلوعها، كانت تنظر إليه بين اللحظة والأخرى لتتأكد من أنه قد مات، كانت تتمنى أن ترفع عينيها لتجده حياً، ربما مصاباً فقط، لكن في كل مرة كان تطالعها الدماء وملامح وجهه الذي فارق الحياة، فيعيدها ذلك من خيالاتها فتغرق في البكاء من جديد..
لم تدر كم مر عليها وهي على هذا الحال، كانت تبكي ثم تفيق دون أن تشعر أنها قد غابت عن الوعي، فتنظر إلى أياد وحازم فتعاود البكاء والصراخ من جديد ودون أن تدري تغيب عن الوعي.. وقد استيقظت ذات مرة ورأت عبر النافذة إلى السماء التي كان لونها برتقالياً غريباً، لم تدرك السبب، فقد وقعت عيناها على الجثتين فعادت للبكاء من جديد..
كانت السماء برتقالية بفعل الأسلحة التي استخدمها المحتل، والتي لم تكن أسلحة عادية، فقد كانت السماء تشع بأنوار فسفورية، وتتناثر هذه الأضواء كأنها سائل لتغطي كل شيء، ومباشرة بدأت الأمطار بالهطول، كانت أمطاراً غزيرة جداً، سببت فيضاناً فامتلأت الشوارع والبيوت بماء المطر..
مر يومين ونجلاء على هذا الحال، وعندما استيقظت هذه المرة كان ذلك بسبب الماء، شعرت بأنها تجلس في ماء بارد، وعندما عادت لوعيها تماماً سمعت صوت المطر يتساقط غزيراً في الخارج، والماء قد ملأ البيت تماماً، وكانت هي جالسة وسط بركة من الماء والدماء، نظرت إلى زوجها وإلى حازم، فأغلقت عيني حازم، وقبّلت زوجها على رأسه قبلة وداعٍ، والدمع يملاً مقلتيها، كانت تبكي وبشدة، وكان جسدها منهكاً من كثرة البكاء ومن البرد والبلل، لكنها تحاملت على نفسها واتجهت إلى عمها الذي نام في مكانه، وكان واضحاً أنه بكى كثيراً حتى نام، أيقظته، وساعدته على الوقوف، ثم مشيا عبر الماء الذي أغرق المكان، اتجها إلى الدور العلوي، وكانت نجلاء تمسح عينيها كل لحظة حتى تتمكن من رؤية الدرج بشكل صحيح، أوصلت عمها إلى غرفة في الأعلى، ثم نزلت الدرج وهي تتحاشى النظر إلى غرفة المعيشة..
كان يجب عليها أن تحافظ على حياتها وحياة عمها، فاتجهت إلى المطبخ، لم تدر كيف جاءتها القوة لتقوم بكل ما تقوم به، كانت طاقة من عند الله الرحمن الرحيم، كان كل شيء يسبح في الماء، فاتجهت إلى كيسي الطحين والأرز، وكان الماء قد بلل جزءاً كبيراً منهما، ففتحتها، وجلبت كيساً آخر وبدأت تنقل الطحين والأرز غير المبتلين بيدين مرتجفتين من كثرة البكاء، حملت الكيسين إلى الطابق العلوي، كان جسدها مرهقاً واهناً، لكنها عادت لتبحث عن الماء، فوجدت ما بقي من الماء وكان ستة قناني بلاستيكية، حملتها اثنتين اثنتين إلى أعلى، ثم استبدلت ملابسها المبتلة، وهنا كانت كأنما أنهت المهمة التي أمدها الله بالقوة من أجلها، استلقت وغابت عن العالم وهي لا تزال تشهق وتبكي..
لم تدرِ كم نامت، غير أنها استيقظت يهزها عمها بيده وهو يناديها:
- نجلاء.. نجلاء..
كانت قد نامت نوماً دون أحلام، لكن استيقاظها من النوم أعاد لها ذكرى ما حدث فانخرطت في البكاء من جديد، فقال لها عمها ودموعه على خده:
- يا ابنتي.. دعينا نستغفر الله.. اذكري الله.. اذكري الله..
قالت نجلاء من بين دموعها:
- لا إله إلا الله..
تابع عمها كلامه وهو يكفكف دمعه:
- لقد مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفلذة كبده، وعمه حمزة رفيق طفولته، وزوجته خديجة رفيقة دربه،فما كان من النبي الكريم إلا أن يقول:" إنا لله وإنا إليه راجعون "، قوليها يا ابنتي.. قوليها يربط الله على قلوبنا..
بصوت مختنق مرتجف وعبر شهقاتها قالت نجلاء:
- إنا لله وإنا إليه راجعون.
ربّت عمها على كتفها وهو يبكي ويقول:
- اللهم صبرنا.. اللهم صبرنا..
بعد فترة من البكاء هدأا فقال الحاج لنجلاء:
- لا يوجد لدينا ماء أليس كذلك؟ مكتوب علينا أن نموت جوعاً وعطشاً، لا إله إلا الله.
إلا أن نجلاء قالت:
- لا يا عمي عندنا ماء والحمد لله، لكنه قليل، سأحضر لك منه، أنا آسفة يا عمي قصرت في حقك.
قال لها عمها:
- لا يا ابنتي.. لا تعتذري.. أنت لم تقصري في شيء.. بارك الله فيك..
خلطت نجلاء بعض الطحين بالقليل من الماء صانعة منه عجينة طرية، وقدمتها لعمها وقالت:
- هذا ما عندنا، قليل من ماء وطحين وأرز، وعلينا أن نتدبر أمرنا في حدودها إلى أن يفرجها الله.
تناول منها عمها العجينة وأكل منها على كراهة، ثم شعر أنها لا تأكل، فقال لها:
- ألا تأكلين؟ يجب أن تأكلي حتى لا تموتي، توكلي على الله وسمّي بالله..
كانت نجلاء تعرف هذا لكنها لم تكن تستطيع أن تضع في حلقها لقمة طعام، ولما كان عطشها شديداً، استطاعت بصعوبة أن تشرب جرعتين من الماء..
كانت تفكر أنها بحاجة لأن تصلي حتى تريحها الصلاة، ويريحها الحديث مع رب العالمين، وكانت ترى من خلف الستارة أن النهار ينقضي، لم تكن تعرف كم مرَّ عليها من الوقت، ولم تعرف كم يوماً مر، وكم صلاةً فاتتها، أرادت أن تتوضأ لكن لا ماء ولا كهرباء فتيممت، ووقفت على السجادة تصلي..
كانت تصلي بلا عدد ولا حساب، تصلي الركعتين تلو الركعتين، وعندما قدرت وقت المغرب صلّته، ووقت العشاء صلّته، وكانت في صلاتها تبكي وتبكي وتشتكي حزنها إلى الله..
وكلما حاولت مخيلتها أن تعود للحظات استشهاد أياد وحازم كانت تمسك القرآن وتقرأ به، حتى تشغل فكرها بغير هذا الأمر..
بعث الله في روحها قوة نفسية هائلة، وإلا كانت ستموت هي الأخرى، فكل هذه الأهوال كبيرةٌ على عاتق أقوى الرجال، فما بالها بفتاة لا يتجاوز عمرها العشرين؟! إلا أن جزءً من تحاملها على نفسها كان اهتمامها بعمها، كانت تحاول إخفاء حزنها عنه، وتتظاهر بالصبر ورباطة الجأش حتى لا تُحزنه، وكلما رأته يبكي، أخذت تحاول أن تسرّي عنه، وكذلك هو كلما أحس ببكائها حاول محادثتها ليسرّي عنها، كانا يجبران نفسيهما على الأرز النئ والطحين المعجون بالماء حتى يبقيا على قيد الحياة، وكانا يشربان الماء بحرص وتقتير..
لم تحاول نجلاء الاقتراب من النافذة الموجودة في الغرفة، ولا حتى النزول من الطابق العلوي، كان الخوف يُلزمها مكانها، فلم تكن تعرف ماذا سيحدث لو دخل عليها الأمريكان، كما أن النافذة – ومنذ الحادث – أصبحت مكاناً محرماً خطيراً..
كانا يسمعان القصف والتفجير وأصوات الرصاص..
وكانا يصليان، ويقرآن القرآن..
ويدعوان..
**********************************************************
في بغداد كان القلق يعصف بالجميع، الحاجة ساهرة، نهلة، عماد، وأهل نجلاء.. لم يكن أحد يستطيع معرفة أي شيء عن الفلوجة، كانت الفلوجة الآن منطقة محرمة، لا يستطيع أحد دخولها، انقطعت الاتصالات بينها وبين العالم الخارجي، كل ما كانوا يستطيعون فعله هو الدعاء ليفرّج الله الأزمة، ويحفظ الجميع..
بعد خمسة وأربعين يوماً من بداية حرب الفلوجة، سُمح للناس بدخولها لكنه دخول مقيد، فقد كانت طوابير كثيرة من العائدين تقف أمام الفلوجة تنتظر السماح لها بالدخول، وقد هُرع والد نجلاء السيد عبد السلام إلى حدود الفلوجة عندما سمع الخبر، فقد كان يتوق للاطمئنان على ابنته، وإن كان يشوب قلبه قلق من أن لا يراها..
كان الكثير من الواقفين في الطابور تتم إعادتهم ولا يُسمح لهم بالدخول، وكان الناس يقفون في الطابور يوماً كاملاً وأحياناً تصل مدة الانتظار إلى ثلاثة أيام حتى يُسمح لهم بالدخول، ووقف عبد السلام وابنه يومين كاملين، نالهما خلالها التعب والإنهاك، لكنه ما أن دخلا الفلوجة حتى نسيا كل تعبهما، كانا يبحثان عن نجلاء، لكن ما كان يريانه في الطرقات كان يذهلهما كثيراً، فالجثث في كل مكان، أمام الأبواب، في الشوارع، كانت الجثث متحللة تنشر روائحَ كريهةًً، وكان منظرها مُقبضاً، بالدماء المتجمدة عليها، والإصابات الخطيرة، مرا بجانب جثة رجل كان يحمل طفلةً صغيرةً في يد، وفي اليد الأخرى قطعة قماشٍ بيضاءَ واضح أنه كان يلوّح بها ليذهب إلى مكان ما..
لم يتمالك الحاج عبد السلام نفسه، ووجد نفسه يبكي، كأن الموتى من أهله، كيف لا وهم مسلمون، ومن أهل بلده، وفوق كل هذا هم بشر.. بشر أبرياء لم يفعلوا شيئاً..
وعندما دخلا المنطقة التي تسكن فيها ابنته، لم يستطع التقدم لفرط ذهوله وبكائه، فقد كانت الجثث هناك غريبة الشكل، كان الجلد قد انفصل عن اللحم كأنه رداء خارجي، وكانت الجثث محترقة إلا أنها كانت محتفظة بثيابها سليمة كاملة، وبعضها كان قد ذاب اللحم فيها فاختلط مع العظم في منظر بشع جداً، لم يرياه في أسوأ كوابيسهما ولم يتخيلاه يوماً..
كان الألم يجتاح مشاعرهما، وكان رعب الحاج عبد السلام يتزايد كلما رأى ذلك خوفاً من أن يكون هذا مصير ابنته، حاول طرد هذه الأفكار من عقله، غير أن مرأى الجثث أمامه كان يحول بينه وبين ذلك..
أسرع الخطى باتجاه البيت المقصود، وهو يتحاشى النظر إلى الجثث المرتمية في كل مكان، وشبح الموت الذي يجول بين البيوت.. دق الباب ولكن لم يرد أحد، وعندما حاول فتحه وجده مغلقاً فبحث عن شيء ليكسر الباب، وانهال بالضربات على قفل الباب فخلعه واندفع إلى الداخل يبحث عن ابنته الوحيدة..
في هذه الأثناء لم تكن نجلاء تعرف شيئاً عن العالم الخارجي، ولم تعرف أن الحصار المميت قد انفك طوقه، وأن هناك الآن من يدخل الفلوجة، فلازال القصف مستمراً وإن كان متباعداً.. كانت تقرأ القرآن عندما سمعت ضربات على الباب، فانسحب الدم من وجهها، وارتجفت بشدة، قالت في نفسها: لابد أن هؤلاء من الأمريكان، وسيدخلون البيت ليبحثوا عنا ويقتلونا.. كان تفكيرها فيما يمكن أن يفعلوه قبل قتلها يكاد يقتلها رعباً، نظرت إلى عمها الذي توتر بدوره لسماعه الضربات، قامت إليه وأسندته ليذهبا إلى زاوية الغرفة، واختبئا هناك خلف قطعة أثاث، وهي تدعو الله وتقرأ الآية:
- وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون.
ومع الأصوات التي انتشرت في المنزل كان قلبها يزداد خفقاناً، وأنفاسها تلاحقاً، وانتبهت إلى أن عمها يعتصر يدها في كفه، يكاد الرعب يفتك بهما، وهي لا تزال تتلو الآية، ومع اقتراب الخطوات من باب الغرفة التي كانا فيها سمعت صوتاً بدا كأنها تعرفه، كاد قلبها يتوقف وهي تنصت، ثم ومع انفتاحةِ الباب، سمعت صوت والدها وهو ينادي:
- نجلاء.
وما أن رأته حتى بدا لها كأن نوراً ساطعاً أضاء في عينيها، وشعرت أن قلبها وجد الراحة أخيراً، وأن روحها خفيفة تطير.. تطير..
سمع الحاج أبو أياد صوت من ينادي على نجلاء، فاطمأن قلبه، وصرخ:
- هنا.. نحن هنا.. ساعدونا..
اندفع الحاج عبد السلام واحتضن ابنته التي وقعت في غيبوبة، احتضنها في سعادة وهو يملأ عينيه منها، فبعد أن وجد الجثتين المتحللتين بالأسفل بات الأمل في قلبه ضعيفاً بإيجاد نجلاء على قيد الحياة، والتفت إلى ابنه الذي كان يساعد الحاج أبو عماد على الوقوف، وقال له والحزن يختلط بكلماته:
- الحمد لله على سلامتكم يا حاج، الحمد لله على سلامتكم..
خرج الجميع من المنزل، وذهبوا إلى بغداد، ورقدت نجلاء والحاج أبو عماد في المستشفى لما كان يحتاجه جسديهما من عناية بسبب عدم توفر الطعام المناسب وقلة الماء..
وعندما أفاقت نجلاء من غيبوبتها لم تعد تستطيع الكلام، إلا أن مخيلتها ستحمل دوماً صورة مقتل أياد وحازم أمام عينيها، وذكريات المنفى في بيتٍ في الفلوجة، متذكرةً دائماً أن هذا الحلم هو ما جاءت أمريكا لتحقيقه..
حلم الحرية.. والعدل..
والديموقراطية..
الديمقراطية الأمريكية..
11 التعليقات:
السلام عليكم،
اني ابحث عن نوعية السموم التي كانت في القنابل الامريكية هل هي
كيميائية أم يورانيوم منضب
هل هي فسفور ابيض ام احد مركبات الفسفور الابيض ام شيء آخر؟
اي ماهو السبب بالضبط وكيف وراء التشوهات الخلقية في الاطفال المولودين حديثا هذه السنة والسنة التي قبلها؟
هل لديك جواب لذلك؟
سأحافظ على الاشارة لك اي للمعلومات.
البرجوازي العراقي
http://birjwazi.blogspot.com
شكرا على التعليق في مدونتي
ساقوم باضافة المعلومات التي تكلمتي عنها وساقوم بتصليح كلماتي هناك.
الحقيقة اعرف ان اعلام الحكومة الحالية طبل وزمر بطبل فارغ لقضية ان المبعدين من الفلوجة رجعوا لكني لا اعرف نسبة المهاجرين وبعدها هل رجعوا كلهم ام لم يرجع كلهم.
هناك فلم لجندي امريكي مهم موجود على الياهو نيوز وساحاول اقتلاعه ان سنحت لي الفرصة لان الياهو لايتيح ذلك بالشكل العادي المهم هذا الجندي تكلم عن الحالة بعد سنة من حرب الفلوجة حيث المدينة كانت لا تزال مهجورة وكان يشعر بان هناك اشباح تطارده في كل مكان مع صوت الكلاب.
انا رايت الفلوجة مرتين فقط قبلا في التسعينات وكان لي صديق عزيز من عشيرة زوبع في الجامعة وكان يخبرني الكثير عن اهلها وتراثهم وتمسكهم الفطري بتقاليدهم العشائرية وغيرتهم العالية وشجاعتهم وكان لدينا سكرتيرة في الجامعة طيبة وتعاملنا كانما كابنائها وكانت ايضا من الفلوجة.
بعد احتلال بغداد كنت احاول ان اشد من ازرهم ان لايتركوا مناصبهم في الجامعة مع انتشار نفوذ الديانة الصفوية في الجامعة.
كنت قبلا احاول الابتعاد عن تسميتها بالديانة الصفوية حتى انفجعت عندما وجدت جذور المؤامرة في التحويل والاستيلاء على اصول المذهب الجعفري العربي وتحويله الى ديانة صفوية في اردبيل. وذلك يحتاج الى مقال كامل لتوضيح هذه المؤامرة القديمة.
شكرا لجميع جهودك الانسانية.
العراق اليوم بحاجة لان يتعلم منك ان يقدم يد العون لجميع المهجرين العراقيين على ارضهم بدلا من يتم تبديد الاموال بقضايا يضن الكثير من الناس انها في سبيل الله وهي ابعد ما تكون عن الدين وعن الرحمة وعن الانسانية ايضاً.
فاذا كان الانسان مشردا وفقيرا فكيف له ان يتعلم وان يعمل وان يكون صحيح الجسم؟
دعائي ان يوفقك الله في مسعاك الانساني دائما في النشر عن الجمعيات الانسانية وعن المساعدات الطبية لمنكوبينا.
وساحاول دائما نشر هذه المساعي الانسانية في كل مدوناتي.
تشرفنا
البرجوازي العراقي
http://birjwazi.blogspot.com
اسف يظن وليس يضن
كتبتها على عجلة من امري
والحقيقة اني احاول دائماً ان لا
ألحن او ان اخطأ املائياً
البرجوازي العراقي
للحظات وجدت نفسي اتوحد مع نجلاء و ارجو ان يكون اياد حياَ لكن الموضوع ليس اياد او حازم, ففي كل بيت هنالك اياد و ان عاش هذا لا يعني ان الاخرين لا يزالوا على قيد الحياة.
هذه هي مصيبة الارقام في الاخبار, فهي تجردنا من مشاعرنا و تحول الضحايا الى رقم بعيداً عن كونه انسان و عائلة و اصدقاء و حياة كاملة و عُمُر.
سَلمتِ و سَلمت يداكِ
الله يعين أهلنا بالعراق على اللي يمرون بيه..
البرجوازي العراقي:
آمين الله يسمع منك الدعاء إن شاء الله..
أتاوي..
صدقتِ.. الأخبار مجرد أرقام بينما في كل رقم قصة ومأساة وألم..
الله يصبر الناس
ماذا يمكن أن نقول وقد أغتصبوا وقتلوا كل معاني الأنسانية وهم يسعون في طريق الفوضى الخلاقة التي يريدون أن يغيروا ويبنوا بها هل يمكن أن يتصور أحد بشاعة ذلك ، لقد نسوا ما كانوا يسمون ويتهمون به النازية والفاشية والشيوعية ، إنها الديمقراطية المغلفة بفوضى الحرية وعبثية الدعاوى في التغيير نحن لا نكره تلك المسميات بل نريد خيرها ولكن ليس عبر البوابة الأمريكية التي خدعت وكذبت حتى وصلت لما تريد فكيف ستصدق معنا في النهاية هذا ما ستجيب عليه الأيام تباعا.
تحياتي
الأخ الكريم.. الروح العراقية..
لا فض فوك، كلمات تنطق بالحقيقة.. نعم نريد الديمقراطية، لكننا نريد خيرها لا شرها.. ولا نريدها عن طريق محتل مغتصب!
المشكلة لا زال البعض ينادي بشرعية هذا المحتل ونزاهة أهدافه!!!!!
أعلم أن القصة كانت طويلة، شكراً لقراءتك وسعيدة بذلك، وأتمنى إن كان هناك أي تعليق على أسلوب الكتابة أو الأحداث أن تتفضل به لأنه بالتاكيد يهمني فيما سيتلوا ذلك من كتابات بإذن الله.
كل التحايا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا جزيلا على سؤالك عما يمكن أن أراه من ملاحظة حول الكتابة بشكلها المرسوم، فلست من ذوي الأختصاص الأدبي والفني في الكتابة لأن كتابتي في الصحافة ليس مثل كتابة القصة وأن كانت هناك بعض الملامح المشتركة في نقل الصور والأحداث. كما تعلمين هناك أنواع متعددة في الكتابة تتنوع حسب لون الأدب الذي نكتب فيه، وفيما يخص كتابتك لانها تنبع من أحداث واقعية فأنها تميزت بملامح المشاعر والأحاسيس الواضحة والتي سرعان ما تؤثر في القارئ ، ويمكن ملاحظة بأن موقع الكتابة له نفس التأثير فيمن يقرأ فأن الكتابة في كتاب ليست مساوية للقراءة عبر شاشة الحاسوب ، فيمكن لك أن تعمدي الى تحديد مسيرة الأحداث على شكل حلقات أصغر تكون أسهل للمتابع الذي يرغب في قراءة القصة لآنك كما تعرفين إذا عدت الى عدد الزوار الذين تريهم قد زاروا الموقع وماذا قرأ لتعرفي سبب الزيارة هل هو للقرأة والمتابعة أم فقط للتصفح فهناك من يتابع فقط ما كان يبدوا له بأنه جدير بالمتابعة فعلى سبيل المثال عندما تقول أتاوي بأنها كانت في لحظة تعيش شعور نجلاء ومن هنا يمكن أن نرى بأنها تابعت فقط مجريات هذا الجزء حول أياد ونجلاء لن الوقت يضيق عند القراءة فقد وأركز فقد تكون لم تقرأ إلا الجزء الذي تبغي متابعته ولم يتسنى لها أن قرأت كل القصة وهكذا الحال مع الأخرين، فمن الضروري أن لا تفقدي حس الحبكة الذي تتسم به الواقعية بالاطالة، وتبقى مسألة تواصل روايةالأحداث يمكن لك أن لا تقطعي أنسجام وتسلسل القرأة عندما تتحولين من صورة الى أخرى وعلى سبيل المثال أنتقال الروايةالى بغداد كان يجب وضع رابط زمني أو مكاني أو لغوي بدل من وضع الخط الفاصل، كما يمكن أن تكون المقاطع الصورية التي جسدتها مفاصل نجلاء ومعاناتها في البيت ولحظات الانتظار وكذلك صورة الأب أو محاولات باقي الأسرة في بغداد على شكل أكثر صورية بأضافة نوع من التفاصيل الدرامية على موقع الحدث لكي تحدث الصورة المرسومة تأثير أكبر. كما يمكن لك الاستعانة بالمصادر والروايات من مختلف وسائل الإعلام والكتاب لتوثقي للحدث الذي ترويه وتضيفي نوع من المصداقية على كتابةالقصة.ولهذا ترين بأن البرجوازي يسأل عن تفصيل بعيد عن أختصاصك في الكتابة وهو رواية أحداث حقيقية ولكن حب التعرف على المزيد يحتاج الى تفاصيل أخرى تعزز ما نكتب.
يمكن لك أن تراسلي أحد القنوات القريبة منك وتري مدى أمكانية قبولها كعمل يمكن لكتاب السناريو تحويله الى مسلسل يروي جزء من أحداث تلك الفترة، مثل الشرقية.
تحياتي وتقديري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عملت اليوم على نشر القصة وذلك بالطلب من أحد الأصدقاء في جريدة الموقف الصادرة في بغداد وهي جريدة مستقلة لنشر منفى في الفلوجة على شكل حلقات في الصفحة الثقافية للجريدة وستنشر أول حلقة غدا الخميس.
تحياتي
أختي الحبيبة زهرة مدونتك تحتوي الكثير من الفوائد والمعلومات
أعجبتني كثيرا وسعدت بالتجول في جنباتها
هل تسمحي لي بأن أقتبس منها بعض المواضيع ويكون لك الأجر بإذن الله فالدال على الخير كفاعله
أرجو أن تردي من خلال مدونتي إذا وافقت
بارك الله فيك وجعل مدونتك في موازين أعمالك
أخيتي الحبيبة..
أفخر بتعليقك على مدونتي، تعليق هو وسام أعلقه فيها..
يسعدني أن تكون كتابتي فائدة وهو الهدف منها والله الشاهد..
أسعد بنقلك لمواضيع منها.. فقط أطلب الإشارة إلى المدونة أو التدوينة.
وجزاك الله خيراً
إرسال تعليق