تسجيل لأحداث حقيقية وقعت في ديسمبر عام 2004 في ما عرف بأحداث الفلوجة خلال أيام حصار وحرب دامت 45 يوماً من قبل قوات الاحتلال الأمريكي.
أنا اسم بلا لقب
صبور في بلاد كل ما فيها
يعيش بفورة الغضب
سجل!
محمود درويش
من بين الزروع والثمار.. من بين أسعف النخيل.. وأوراق أشجار الليمون والخوخ.. هبت نسائم جميلة.. حملت أصوات الأذان من المساجد الكثيرة المنتشرة في المدينة، صانعة منها خليطاً رائعاً من الأصوات الندية التي لا يمكن سماعها إلا في تلك المدينة المسحورة..
داعبت أصوات الأذان مسامع نجلاء فاستيقظت وأيقظت زوجها أياد ليصليا الفجر.. وبدأت أصوات الحركة تدب في المنزل حيث تسكن نجلاء مع أهل زوجها، فها هي أصوات أولاد عماد أخو أياد وهم يختلفون على الحمام، وهاهو صوت الحاجة أم أياد توقظ ابنتها نهلة وصوت أياد الذي ذهب ليوقظ أخاه حازم، خرج الشباب إلى المسجد، وصلت النساء جماعة، ثم صعدت نجلاء لغرفتها لترتبها..
كانت النافذة مفتوحة فهبت نسمة باردة جعلت نجلاء ترتعد وهي تتجه إلى النافذة لتقلل من فتحتها، لكن المنظر من النافذة شدها فوقفت تتأمل الشمس التي بدأت تنشر ضياءها على الكون، وسعف النخيل الذي أخذ يتمايل مع النسائم الرقيقة حتى بدت أشجار النخيل كأنها تلوّح من بعيد، ومن خلفها بدا النهر كأنه نهر من الفضة يتلألأ وبريقه ينشر أضواء لامعةً على الأشجار والمزروعات..
أغمضت نجلاء عينيها، وهي تحفر ذاك المنظر في ذهنها، وتمزجه بأصوات الصلاة التي لا زالت قائمة في بعض المساجد، لتستشعر عظمة الخالق وإبداع صنعه، هبت نسمة داعبت وجهها وشعرها الذي يتطاير مع الهواء، فابتسمت لمّا تناهى إلى سمعها حديث بعض الصبية المتجهين إلى المدرسة القريبة، الذي كان عن مباريات كأس العالم لكرة القدم، وكيف يصف أحدهم رمية بطله، والآخر يؤكد أن الفريق الذي يشجعه هو الأفضل..
نبهها خروج الأولاد إلى مرور الوقت وهي في وقفتها تلك، دون أن تنزل لمساعدة الحاجة أم أياد وسندس زوجة عماد في تحضير الإفطار للجميع، ولكن ما أن ابتعدت عن النافذة حتى وجدت أياد يتقدم إليها، ويطل من النافذة وهو يقول:
- فيمَ تفكر الحلوة؟
ابتسمت في دلال وهي تنظر إليه وتقول:
- كنت أنظر إلى هؤلاء الأولاد الصغار، وأتخيل ابننا بعمرهم، ويذهب معهم إلى المدرسة، ويناقش معهم كرة القدم، والواجبات، أتخيله يأتي إلي راكضاً فرحاً بنتيجته.. أتخيله مهندساً ماهراً كأبيه..
ضحك أياد مقهقهاً وقال:
- فليأت أولاً ثم خططي مستقبله، نحن لم نتزوج إلا منذ أربعة أشهر، وأنت تستعجلين التعب؟
ضحكت بدورها وقالت:
- تعبهم راحة، أنت لا تعرف كم سأكون سعيدة بانشغالي معهم..
لوى فمه عابساً بشكل مازح وقال:
- وتتركيني؟ من سيعتني بي إذن؟
ضحكت وهي تلبس حجابها وقالت:
- ومن قال أني سأهملك.. أنت في عيني..
وضع يده على كتفها وهو يقول:
- يحفظك ربي لي، وحفظ أجمل عينين رأيتهما في حياتي.
ضحكا في مرح وهما يتجهان إلى الطابق السفلي..
أخذت نجلاء تساعد سندس في تحضير الإفطار، وتجمع الجميع يأكلون بسرعة ليلحقوا أعمالهم، وكالعادة، بدأ أولاد سندس في العراك، فأنهى عراكهم والدهم عماد الذي قال:
- من لا يركب السيارة الآن، فسيضطر للذهاب مشياً، لا أريد أن أتأخر عن العمل.
فانطلقوا يتراكضون إلى السيارة، ونجلاء وسندس يضحكون من منظرهم، وقالت نجلاء لأخت زوجها نهلة:
- وأنت ألن تلحقي بهم؟ ألا تريدين أن يوصلك عماد للمدرسة؟
قالت نهلة بتذمر:
- بلى، لكن أنت تعرفينهم، سيتعاركون أولاً على أماكنهم في السيارة، لذلك سأنتظرهم حتى يستقروا في جلستهم ثم أركب.
ضحكت نجلاء وسندس من جديد، ثم جاء حازم الذي قبّل رأس والده العجوز الضرير، وقبّل رأس والدته وهو يتناول منها رغيفاً من الخبز الحار الذي أتمت خَبزه قبل دقائق فقالت له:
- ألا أضع لك شيئاً في الخبز؟
فقال:
- لا شكراً يا أمي.. يجب أن أذهب الآن.
فقالت وهو تودعه بنظراتها:
- الله يحفظك ويحميك، وتنجح وتتخرج وتصبح طبيباً كبيراً.
أتم أياد إفطاره، فخرج بعد أن ودع نجلاء وقبّل والديه.. وبدأت سندس تجمع الصحون، أما نجلاء فقد أتمت تحضير إفطار خاص لعمها العجوز بسبب مرضه، ثم ذهبت إليه وبدأت تساعده في تناول طعامه بكل الحب والحنان كأنه والدها، ثم أسندته، وأخذته إلى غرفته ليرتاح على سريره، وقبلته على رأسه، فطلب منها أن تفتح المذياع على إذاعة القرآن الكريم، ففعلت ثم أغلقت الباب بهدوء.
واتجهت لتبدأ أعمالها في التنظيف، وفي طريقها قالت لسندس:
- أنا سأتولى اليوم تنظيف البيت، وأنت عليك غسل الملابس، فأنا سأذهب عند أم حارث لأساعدها في الحضانة..
ثم تابعت وهي ترتب بعض الوسائد وتجمع الألعاب لتعيدها لمكانها:
- عندما ذهبت أنا والحاجّة لزيارتها البارحة كانت متعبة جداً من عملها في الحضانة، فعرضتُ عليها أن أساعدها، وقد سمح لي أياد بذلك فهو يعرف حبي للأطفال، وعندما اتصلت بها مساءَ لأخبرها بمجيئي أبت إلا أن نتفق على أجر لي لقاء عملي، رفضت لكنها ألحت كثيراً، ولم أجد بُداً من أن أقبل، لكني لن آخذ أكثر من مبلغ بسيط..
قالت سندس وهي تجمع بعض الملابس لتغسلها:
- وكيف ستصرفين المبلغ؟
ضحكت نجلاء وقالت:
- لم أعمل بعد ! لكني سأجمعها وسأستغلها أفضل استغلال إن شاء الله.. لم أفكر بعد كيف، لكني سأعرف ماذا أفعل..
اتجهت نجلاء إلى الدلو لتملأه بالماء، وأمسكت الخرقة التي تُستخدم في مسح الأرضيات واتجهت لأول غرفة..
كانت نجلاء تنشد بصوتها الجميل وهي منهمكة في التنظيف عندما قطعها صوت انفجار شديد، وارتج البيت بشدة، فصرخت نجلاء وهي تجلس على الأرض وتحمي رأسها بيديها، كان شيئاً معتاداً أن تسمع أصوات الإنفجارات في الفلوجة، فلا يمر اليوم بدون قصف، غير أن الانفجار كان قريباً هذه المرة، استمرت الإنفجارات مدة عشر دقائق، أحست خلالها نجلاء أن مخازن الصواريخ الأمريكية قد نفدت، انتهت الإنفجارات بإنفجارين أخيرين امتزجا بأصوات الطائرات المبتعدة، وبقيت نجلاء على حالها حتى تتأكد أن الطائرات لن تعاود الهجوم، ثم قامت على حذر تجول في البيت ووجدت سندس تجلس بجانب الحاجة ساهرة والدة زوجيهما، وذهبت مسرعة لتطمئن على الحاج، فوجدته قد جلس من رقدته، وهو يسبح ويستغفر، فسألته:
- هل أنت بخير يا عمي؟
أومأ برأسه وقال بقلق:
- الكل بخير؟
قالت له وهي تربت على كتفه:
- نعم يا عمي الكل بخير، اسمح لي أساعدك.
أعانته على العودة لفراشه، ثم عادت إلى سندس والحاجة، فوجدتهما، تطمئنان على المنزل، لكن نجلاء رأت قلقاً في عين سندس فقالت لها:
- إن شاء الله يعود الجميع بخير.
شردت سندس بعينها، وقالت وهي تفرك يديها بقلق:
- ترى أين سقطت القنابل هذه المرة؟ كان القصف شديداً جداً.. يا ربي، أنا خائفة على الأولاد.
قالت لها نجلاء في محاولة لإزالة قلقها:
- أنا لا أعتقد أنها قريبة من مدرستهم.
أومأت سندس برأسها تريد الاقتناع بكلام نجلاء لكن الألم بدا على وجه سندس وهي تقول:
- لكن القصف استمر فترةً طويلةً، لا أعتقد أن هناك بقعة في الفلوجة لم يتم قصفها !
ربتت نجلاء على كتفها وقالت:
- أنت تتخيلين فقط !
ثم اتجهت إلى الحاجة ساهرة التي جلست في طرف الغرفة صامتة كأنها تنتظر نعي أحد أولادها أو أحفادها، جلست بجانبها تحاول تهدأتها وترمق سندس التي كانت تجول في الغرفة بقلق فتلتفي عيناهما لتتباعدا من جديد مداريتين القلق الذي كان يعصف بقلبيهما، قالت نجلاء محاولة تبديد مشاعر القلق:
- يبدو أني لن أذهب إلى أم حارث اليوم.. المسكينة.. أكيد أنها تنظر وصولي لأساعدها، كنت سأنهي الآن تنظيف البيت وأذهب إليها.
ربتت الحاجّة على كتف نجلاء وهي تقول:
- بارك الله فيك يا بنتي.. تستطيعين الذهاب إليها، سنكون بخير إن شاء الله..
رددت نجلاء بصوت خافت:
- إن شاء الله، لكني أفضّل البقاء، أريد أن أطمئن على أياد أولاً.
بعد ساعة من الانفجار قالت سندس وهي تكاد تبكي:
- لقد تأخروا لابد أن مكروهاً حدث لهم، أنا أريد أن أذهب لأطمئن عليهم.
ذهبت إليها نجلاء، ووضعت يدها على كتفها متظاهرة بالشجاعة رغم قلقها وقالت لها:
- لا يا سندس، ربما كان الطريق مسدوداً اصبري قليلاً، وستجدينهم إن شاء الله يدخلون الآن من الباب.
وكأنما استجابة لكلامها، فُتح الباب، واندفع منه الأولاد ويتبعهم والدهم، وأياد وحازم، فشعرت كل من الحاجة وسندس ونجلاء أن ماءً بارداً أطفأ نيران القلق التي كانت تستعر في قلوبهن، وقال عماد:
- تأخرنا لأن الطريق كان مزدحماً، فالسيارات في كل مكان تنقل الجرحى والمصابين إلى المستشفى، وليست فقط سيارات الإسعاف التي لم تعد تكفي، فالقصف هذه المرة كان على منطقة السوق، وتعرفون كم يكون مزدحماً في هذا الوقت، لم نستطع سوى رؤية السيارات التي تخرج من المنطقة حاملة المصابين في طريقها إلى المستشفى، كان من بين المصابين أطفال صغار، كان المنظر حزيناً جداً، وكنت أود المساعدة لكني كنت متلهفاً لأطمئن على الأولاد فذهبت إليهم، ومررنا على حازم في الطريق.. وما أن وصلنا حتى وجدنا أياد يريد الدخول.. الحمد لله أنه لم يتأذى أحد وأن الجميع بخير..
بعد الغداء الذي بقي أغلبه، فلم يستطع أحد تناول شيء بسبب الحزن والغضب الذي ملأ النفوس، كانت نجلاء جالسة في غرفتها، ساهمةً تفكر، فاقترب أياد منها وهو يمازحها ليُذهب حزنها فقال:
- لمَ هذا الحزن كله، الحمد لله الجميع بخير، أم كنتِ تريديني أن أموت؟
التفتت نجلاء إليه بحنق وقالت:
- لا سمح الله، رجاء لا تكررها، لا أريد حتى أن أفكر في هذا، الله أعلم ماذا كنت لأفعل بدونك.
ضحك وقال:
- الحمد لله على القصف حتى أعرف مقدار حبك لي، لكن لم هذا الحزن كله؟
أطرقت نجلاء رأسها وقالت:
- هل تذكر حديثنا صباح اليوم؟ اليوم كنت أفكر بأولادنا، وكيف سيكونون، وماذا سنسميهم، وكنت أخطط لمستقبلهم، ونسيت الخطر الداهم الذي سيكونون فيه إن حضروا إلى الحياة، من الممكن أن يكونوا مع الأطفال الذين رآهم عماد في السوق.
رفعت عينيها وقد امتلأتا بالدموع فقال أياد:
- نجلاء.. حبيبتي.. أولاً الأطفال في كل مكان معرضون للخطر، في أي مكان، الفرق أن الخطر هنا واضح ونعرفه،أعرف أن أوضاع العراق كلها لا تسر، لكنه ابتلاءٌ وعلينا أن نصبر، وأن ننجب من يقف في وجه المحتل، لا أن نتوقف عن الإنجاب خوفاً، هذا ما تريده أمريكا، يتوقف الجميع عن الإنجاب، ويموت الأحياء، عندها تخلو لهم العراق.. أولادنا يجب أن يقاوموا المحتل ليحافظوا على كرامتهم..
كما أنك يجب أن تكوني أقوى إيماناً بالله، يجب أن تثقي أن من يموت فهذا أجله، ولن يغير عليه المكان أو الزمان أي شيء، فهو أجله المكتوب منذ ولادته، والذي سيموت فيه، في قصف أو غيره.
مسح دموعها بيديه، وقال لها:
- يجب أن تُبعدي هذه الأفكار عن رأسك، استعيذي بالله من الشيطان الرجيم، وقومي لنصلي العصر وندعوه الله أن يخلصنا ويخلص العراق من الاحتلال.
نظرت نجلاء إلى عينيه اللتان تنبضان بالعزم والإرادة، فقالت بامتنان وقد أثر فيها كلامه:
- نعم وسأدعو الله أن يعيشوا في كرامة وبدون أمريكان، حتى لو اضطروا للموت من أجل الكرامة.
ربّت على خدها بحنان وقال:
- نعم هذه هي الأفكار التي أريد أن تعلميها لأولادنا، هذه هي نجلاء التي أحبها، والتي أحب أن يكون أولادي مثلها..ابتسمت في سعادة أطلت من عينيها، واتجها ليصليا العصر..
داعبت أصوات الأذان مسامع نجلاء فاستيقظت وأيقظت زوجها أياد ليصليا الفجر.. وبدأت أصوات الحركة تدب في المنزل حيث تسكن نجلاء مع أهل زوجها، فها هي أصوات أولاد عماد أخو أياد وهم يختلفون على الحمام، وهاهو صوت الحاجة أم أياد توقظ ابنتها نهلة وصوت أياد الذي ذهب ليوقظ أخاه حازم، خرج الشباب إلى المسجد، وصلت النساء جماعة، ثم صعدت نجلاء لغرفتها لترتبها..
كانت النافذة مفتوحة فهبت نسمة باردة جعلت نجلاء ترتعد وهي تتجه إلى النافذة لتقلل من فتحتها، لكن المنظر من النافذة شدها فوقفت تتأمل الشمس التي بدأت تنشر ضياءها على الكون، وسعف النخيل الذي أخذ يتمايل مع النسائم الرقيقة حتى بدت أشجار النخيل كأنها تلوّح من بعيد، ومن خلفها بدا النهر كأنه نهر من الفضة يتلألأ وبريقه ينشر أضواء لامعةً على الأشجار والمزروعات..
أغمضت نجلاء عينيها، وهي تحفر ذاك المنظر في ذهنها، وتمزجه بأصوات الصلاة التي لا زالت قائمة في بعض المساجد، لتستشعر عظمة الخالق وإبداع صنعه، هبت نسمة داعبت وجهها وشعرها الذي يتطاير مع الهواء، فابتسمت لمّا تناهى إلى سمعها حديث بعض الصبية المتجهين إلى المدرسة القريبة، الذي كان عن مباريات كأس العالم لكرة القدم، وكيف يصف أحدهم رمية بطله، والآخر يؤكد أن الفريق الذي يشجعه هو الأفضل..
نبهها خروج الأولاد إلى مرور الوقت وهي في وقفتها تلك، دون أن تنزل لمساعدة الحاجة أم أياد وسندس زوجة عماد في تحضير الإفطار للجميع، ولكن ما أن ابتعدت عن النافذة حتى وجدت أياد يتقدم إليها، ويطل من النافذة وهو يقول:
- فيمَ تفكر الحلوة؟
ابتسمت في دلال وهي تنظر إليه وتقول:
- كنت أنظر إلى هؤلاء الأولاد الصغار، وأتخيل ابننا بعمرهم، ويذهب معهم إلى المدرسة، ويناقش معهم كرة القدم، والواجبات، أتخيله يأتي إلي راكضاً فرحاً بنتيجته.. أتخيله مهندساً ماهراً كأبيه..
ضحك أياد مقهقهاً وقال:
- فليأت أولاً ثم خططي مستقبله، نحن لم نتزوج إلا منذ أربعة أشهر، وأنت تستعجلين التعب؟
ضحكت بدورها وقالت:
- تعبهم راحة، أنت لا تعرف كم سأكون سعيدة بانشغالي معهم..
لوى فمه عابساً بشكل مازح وقال:
- وتتركيني؟ من سيعتني بي إذن؟
ضحكت وهي تلبس حجابها وقالت:
- ومن قال أني سأهملك.. أنت في عيني..
وضع يده على كتفها وهو يقول:
- يحفظك ربي لي، وحفظ أجمل عينين رأيتهما في حياتي.
ضحكا في مرح وهما يتجهان إلى الطابق السفلي..
أخذت نجلاء تساعد سندس في تحضير الإفطار، وتجمع الجميع يأكلون بسرعة ليلحقوا أعمالهم، وكالعادة، بدأ أولاد سندس في العراك، فأنهى عراكهم والدهم عماد الذي قال:
- من لا يركب السيارة الآن، فسيضطر للذهاب مشياً، لا أريد أن أتأخر عن العمل.
فانطلقوا يتراكضون إلى السيارة، ونجلاء وسندس يضحكون من منظرهم، وقالت نجلاء لأخت زوجها نهلة:
- وأنت ألن تلحقي بهم؟ ألا تريدين أن يوصلك عماد للمدرسة؟
قالت نهلة بتذمر:
- بلى، لكن أنت تعرفينهم، سيتعاركون أولاً على أماكنهم في السيارة، لذلك سأنتظرهم حتى يستقروا في جلستهم ثم أركب.
ضحكت نجلاء وسندس من جديد، ثم جاء حازم الذي قبّل رأس والده العجوز الضرير، وقبّل رأس والدته وهو يتناول منها رغيفاً من الخبز الحار الذي أتمت خَبزه قبل دقائق فقالت له:
- ألا أضع لك شيئاً في الخبز؟
فقال:
- لا شكراً يا أمي.. يجب أن أذهب الآن.
فقالت وهو تودعه بنظراتها:
- الله يحفظك ويحميك، وتنجح وتتخرج وتصبح طبيباً كبيراً.
أتم أياد إفطاره، فخرج بعد أن ودع نجلاء وقبّل والديه.. وبدأت سندس تجمع الصحون، أما نجلاء فقد أتمت تحضير إفطار خاص لعمها العجوز بسبب مرضه، ثم ذهبت إليه وبدأت تساعده في تناول طعامه بكل الحب والحنان كأنه والدها، ثم أسندته، وأخذته إلى غرفته ليرتاح على سريره، وقبلته على رأسه، فطلب منها أن تفتح المذياع على إذاعة القرآن الكريم، ففعلت ثم أغلقت الباب بهدوء.
واتجهت لتبدأ أعمالها في التنظيف، وفي طريقها قالت لسندس:
- أنا سأتولى اليوم تنظيف البيت، وأنت عليك غسل الملابس، فأنا سأذهب عند أم حارث لأساعدها في الحضانة..
ثم تابعت وهي ترتب بعض الوسائد وتجمع الألعاب لتعيدها لمكانها:
- عندما ذهبت أنا والحاجّة لزيارتها البارحة كانت متعبة جداً من عملها في الحضانة، فعرضتُ عليها أن أساعدها، وقد سمح لي أياد بذلك فهو يعرف حبي للأطفال، وعندما اتصلت بها مساءَ لأخبرها بمجيئي أبت إلا أن نتفق على أجر لي لقاء عملي، رفضت لكنها ألحت كثيراً، ولم أجد بُداً من أن أقبل، لكني لن آخذ أكثر من مبلغ بسيط..
قالت سندس وهي تجمع بعض الملابس لتغسلها:
- وكيف ستصرفين المبلغ؟
ضحكت نجلاء وقالت:
- لم أعمل بعد ! لكني سأجمعها وسأستغلها أفضل استغلال إن شاء الله.. لم أفكر بعد كيف، لكني سأعرف ماذا أفعل..
اتجهت نجلاء إلى الدلو لتملأه بالماء، وأمسكت الخرقة التي تُستخدم في مسح الأرضيات واتجهت لأول غرفة..
كانت نجلاء تنشد بصوتها الجميل وهي منهمكة في التنظيف عندما قطعها صوت انفجار شديد، وارتج البيت بشدة، فصرخت نجلاء وهي تجلس على الأرض وتحمي رأسها بيديها، كان شيئاً معتاداً أن تسمع أصوات الإنفجارات في الفلوجة، فلا يمر اليوم بدون قصف، غير أن الانفجار كان قريباً هذه المرة، استمرت الإنفجارات مدة عشر دقائق، أحست خلالها نجلاء أن مخازن الصواريخ الأمريكية قد نفدت، انتهت الإنفجارات بإنفجارين أخيرين امتزجا بأصوات الطائرات المبتعدة، وبقيت نجلاء على حالها حتى تتأكد أن الطائرات لن تعاود الهجوم، ثم قامت على حذر تجول في البيت ووجدت سندس تجلس بجانب الحاجة ساهرة والدة زوجيهما، وذهبت مسرعة لتطمئن على الحاج، فوجدته قد جلس من رقدته، وهو يسبح ويستغفر، فسألته:
- هل أنت بخير يا عمي؟
أومأ برأسه وقال بقلق:
- الكل بخير؟
قالت له وهي تربت على كتفه:
- نعم يا عمي الكل بخير، اسمح لي أساعدك.
أعانته على العودة لفراشه، ثم عادت إلى سندس والحاجة، فوجدتهما، تطمئنان على المنزل، لكن نجلاء رأت قلقاً في عين سندس فقالت لها:
- إن شاء الله يعود الجميع بخير.
شردت سندس بعينها، وقالت وهي تفرك يديها بقلق:
- ترى أين سقطت القنابل هذه المرة؟ كان القصف شديداً جداً.. يا ربي، أنا خائفة على الأولاد.
قالت لها نجلاء في محاولة لإزالة قلقها:
- أنا لا أعتقد أنها قريبة من مدرستهم.
أومأت سندس برأسها تريد الاقتناع بكلام نجلاء لكن الألم بدا على وجه سندس وهي تقول:
- لكن القصف استمر فترةً طويلةً، لا أعتقد أن هناك بقعة في الفلوجة لم يتم قصفها !
ربتت نجلاء على كتفها وقالت:
- أنت تتخيلين فقط !
ثم اتجهت إلى الحاجة ساهرة التي جلست في طرف الغرفة صامتة كأنها تنتظر نعي أحد أولادها أو أحفادها، جلست بجانبها تحاول تهدأتها وترمق سندس التي كانت تجول في الغرفة بقلق فتلتفي عيناهما لتتباعدا من جديد مداريتين القلق الذي كان يعصف بقلبيهما، قالت نجلاء محاولة تبديد مشاعر القلق:
- يبدو أني لن أذهب إلى أم حارث اليوم.. المسكينة.. أكيد أنها تنظر وصولي لأساعدها، كنت سأنهي الآن تنظيف البيت وأذهب إليها.
ربتت الحاجّة على كتف نجلاء وهي تقول:
- بارك الله فيك يا بنتي.. تستطيعين الذهاب إليها، سنكون بخير إن شاء الله..
رددت نجلاء بصوت خافت:
- إن شاء الله، لكني أفضّل البقاء، أريد أن أطمئن على أياد أولاً.
بعد ساعة من الانفجار قالت سندس وهي تكاد تبكي:
- لقد تأخروا لابد أن مكروهاً حدث لهم، أنا أريد أن أذهب لأطمئن عليهم.
ذهبت إليها نجلاء، ووضعت يدها على كتفها متظاهرة بالشجاعة رغم قلقها وقالت لها:
- لا يا سندس، ربما كان الطريق مسدوداً اصبري قليلاً، وستجدينهم إن شاء الله يدخلون الآن من الباب.
وكأنما استجابة لكلامها، فُتح الباب، واندفع منه الأولاد ويتبعهم والدهم، وأياد وحازم، فشعرت كل من الحاجة وسندس ونجلاء أن ماءً بارداً أطفأ نيران القلق التي كانت تستعر في قلوبهن، وقال عماد:
- تأخرنا لأن الطريق كان مزدحماً، فالسيارات في كل مكان تنقل الجرحى والمصابين إلى المستشفى، وليست فقط سيارات الإسعاف التي لم تعد تكفي، فالقصف هذه المرة كان على منطقة السوق، وتعرفون كم يكون مزدحماً في هذا الوقت، لم نستطع سوى رؤية السيارات التي تخرج من المنطقة حاملة المصابين في طريقها إلى المستشفى، كان من بين المصابين أطفال صغار، كان المنظر حزيناً جداً، وكنت أود المساعدة لكني كنت متلهفاً لأطمئن على الأولاد فذهبت إليهم، ومررنا على حازم في الطريق.. وما أن وصلنا حتى وجدنا أياد يريد الدخول.. الحمد لله أنه لم يتأذى أحد وأن الجميع بخير..
بعد الغداء الذي بقي أغلبه، فلم يستطع أحد تناول شيء بسبب الحزن والغضب الذي ملأ النفوس، كانت نجلاء جالسة في غرفتها، ساهمةً تفكر، فاقترب أياد منها وهو يمازحها ليُذهب حزنها فقال:
- لمَ هذا الحزن كله، الحمد لله الجميع بخير، أم كنتِ تريديني أن أموت؟
التفتت نجلاء إليه بحنق وقالت:
- لا سمح الله، رجاء لا تكررها، لا أريد حتى أن أفكر في هذا، الله أعلم ماذا كنت لأفعل بدونك.
ضحك وقال:
- الحمد لله على القصف حتى أعرف مقدار حبك لي، لكن لم هذا الحزن كله؟
أطرقت نجلاء رأسها وقالت:
- هل تذكر حديثنا صباح اليوم؟ اليوم كنت أفكر بأولادنا، وكيف سيكونون، وماذا سنسميهم، وكنت أخطط لمستقبلهم، ونسيت الخطر الداهم الذي سيكونون فيه إن حضروا إلى الحياة، من الممكن أن يكونوا مع الأطفال الذين رآهم عماد في السوق.
رفعت عينيها وقد امتلأتا بالدموع فقال أياد:
- نجلاء.. حبيبتي.. أولاً الأطفال في كل مكان معرضون للخطر، في أي مكان، الفرق أن الخطر هنا واضح ونعرفه،أعرف أن أوضاع العراق كلها لا تسر، لكنه ابتلاءٌ وعلينا أن نصبر، وأن ننجب من يقف في وجه المحتل، لا أن نتوقف عن الإنجاب خوفاً، هذا ما تريده أمريكا، يتوقف الجميع عن الإنجاب، ويموت الأحياء، عندها تخلو لهم العراق.. أولادنا يجب أن يقاوموا المحتل ليحافظوا على كرامتهم..
كما أنك يجب أن تكوني أقوى إيماناً بالله، يجب أن تثقي أن من يموت فهذا أجله، ولن يغير عليه المكان أو الزمان أي شيء، فهو أجله المكتوب منذ ولادته، والذي سيموت فيه، في قصف أو غيره.
مسح دموعها بيديه، وقال لها:
- يجب أن تُبعدي هذه الأفكار عن رأسك، استعيذي بالله من الشيطان الرجيم، وقومي لنصلي العصر وندعوه الله أن يخلصنا ويخلص العراق من الاحتلال.
نظرت نجلاء إلى عينيه اللتان تنبضان بالعزم والإرادة، فقالت بامتنان وقد أثر فيها كلامه:
- نعم وسأدعو الله أن يعيشوا في كرامة وبدون أمريكان، حتى لو اضطروا للموت من أجل الكرامة.
ربّت على خدها بحنان وقال:
- نعم هذه هي الأفكار التي أريد أن تعلميها لأولادنا، هذه هي نجلاء التي أحبها، والتي أحب أن يكون أولادي مثلها..ابتسمت في سعادة أطلت من عينيها، واتجها ليصليا العصر..
يتبــــــــــــــــــــع .................
3 التعليقات:
سلام عليك أرض الرافدين سلام عليك يابلد التأريخ والحضارة تنبضين بالعنفوان وتتحلين بالعزة رغم قسوة المحتلين وجور أهل القربى عليك فأنت أرض لا تموتين وسلام على أرض الشهامة بقعة المأذن التي ما برحت تلبي النداء وترتقي الى السماء من غير أن يأمرها محتل أو متسلط جبار ،ومن المحزن جدا أن نشاهد هذه الأيام نتائج العدوان على الفلوجة وما نتج عنه من أمراض خبيثة وتشوهات خلقية مازالت تلحق بأبنائه الأبرياء من غير ذنب ولا جريرة.قليحفظ الله العراق وأهله أينما كانوا وبأي مكان حلوا وأرتحلوا.
بديعة.. كأني اراهم بأم عيني
بأنتظار التتمه
آمييييييييييين إن شاء الله
أشكرك أخي الروح العراقية وإن شاء الله في أجزاء القصة القادمة تتضح فصول الرواية أكثر، صحيح أني لست من مر بالأحداث لكنها قصة أقاربي، وقد حكوها لي لأحكيها لكم ولنفضح المحتل الغاشم "الديمقراطي".
أتاوي..
أشكر تشجيعج المستمر لي :)
إرسال تعليق