ملاحظة: القصة هي تسجيل لأحداث وقعت، وقدلا يكون لبعض الأحداث علاقة بالقصة الرئيسية، لكنها حدثت في نفس الفترة الزمنية، وذكر الحدث لا يعبر عن رأيي فيه.
في فندق الرشيد، في المنطقة الخضراء التي تستخدمها القوات الأمريكية كقاعدة ومنطقة أمنية خاصة بقياداتها والقيادات العراقية الموالية لها، وقف أربعة أجانب في ثياب مدنية، يتحدثون مع الجنرال مايكل، كانت الأوامر التي أعطيت له تقضي بتوفير كل التسهيلات لهؤلاء الأربعة، فهم خبراء من الموساد استعانت بهم المخابرات الأمريكية (CIA) لإحكام سيطرتها على العراق، فالموساد لهم خبرة طويلة مع العرب، وباع طويل في أساليب قتالهم ومقاومتهم وردعهم!!
كان القادة في الموساد قد أبدو رغبة قوية في المساعدة بمقابل الكثير مما تستطيع أن تقدمه أمريكا لهم من خيرات العراق، سواء من النفط، أو تسهيلات لليهود بتملك أراضي على العراق، فأرسلوا أربعة من أكفأ رجالهم وأكثرهم خبرة، كانت وجهتهم التالية هي قاعدة الحبانية العسكرية، وكان الجنرال يشرح لهؤلاء الأربعة الطريق الذي سيستخدمونه للوصول إلى هناك، وكان الطريق الوحيد المؤدي إلى الحبانية يمر عبر الفلوجة..!
ولما كانت الفلوجة تثير القلق فقد تم تجهيز الضيوف بأسلحة كثيرة وقوية، وسيارة على درجة عالية من التصفيح، ولبس الرجال ملابس مدنية للتمويه، فلا يعرفهم أحد..
أوصلهم الجنرال إلى السيارة، وزودهم بما يحتاجون إليه، وتابعهم بعينه حتى اختفوا، وتنهد كأنما قد انتهى من مهمة ثقيلة..
داخل السيارة كان رجال الموساد يتندرون ويضحكون على كل من يرونه، وكانوا يأكلون ويشربون ويمرحون، وعندما اقتربوا من الفلوجة، جهزوا أسلحتهم، فقد سمعوا عنها الكثير من جنرالات الجيش خلال الأيام الفائتة، فهي مدينة يرفض أهلها الخضوع لأمريكا، كما أنهم يشكلون جماعات مسلحة تقاوم الوجود الأمريكي والديموقراطية الأمريكية..
وعندما دخلوا الفلوجة سخروا في أنفسهم من كل ما سمعوه، فهي مدينة بسيطة جداً ويبدو الفقر في أنحائها، ولا يوجد فيها شخص واحد يحمل سلاحاً.. وكانت الأمور تمر بسهولة، ثم وعلى التقاطع الكبير في وسط الفلوجة اضطروا للوقوف، وقد أتاح توقفهم فرصة ليراهم المارّة، كان الناس ينظرون إليهم باشمئزاز فمنظر السيارة الحديثة يدل على أن ركابها من المحتلين..
ومن خلفهم على بعد عدة سيارات، وقفت سيارة كانت تراقبهم منذ أن دخلوا حدود الفلوجة، وفي داخل السيارة قال أحد الجالسين:
- هذه سيارة المخابرات التي وصلتنا أخبارها، استغلوا فرصة الازدحام ووقوفهم على التقاطع، لن نجد فرصة أفضل، فسيارتهم مصفحة، ولن يتوقفوا حتى يصلوا إلى القاعدة، توكلوا على الله.
نزل ثلاثة ملثمين من السيارة وبقي فيها السائق، واتجهوا إلى السيارة بخطوات سريعة خفيفة وطوقوها من جهات مختلفة، وبدأوا بإطلاق النيران وحناجرهم تهتف:
- الله أكبر.. الله أكبر..
سُمعت بعض الصرخات، وابتعد الناس عن السيارة، ووقفوا من بعد يراقبون ما يحدث، كانت الرصاصات تنطلق فتصيب السيارة، فتخدشها فقط، تسمّر رجال الموساد للحظات على الرغم من أنهم في سيارة مدرعة، ثم حاول سائقها الانطلاق بها غير أن السيارات التي تركها أصحابها حولهم كانت قد أغلقت الطريق، فاستل سلاحه وفتح النافذة قليلاً ليصوب باتجاه المقاومين، وكان زملاؤه قد فعلوا المثل فسمع أحدهم يصرخ به:
- موفاز.. اخرج بنا من هنا..
قال وهو مشغول بالتصويب:
- لا أستطيع.. الطريق مغلق.. نحن في سيارة مصفحة وهذه فرصة لننال من هؤلاء العرب المزعجين..
بدا الغضب في صوت الرجل الأول وهو يجاهد ليحسن التصويب عبر الفتحة الضيقة:
- تباً لك موفاز.. اصعد على الرصيف.. اخرج بنا من هنا قبل أن يأتوا بالإمدادات..
عقد موفاز حاجبيه وترك سلاحه وقال وهو يحاول التحرك بالسيارة:
- حقاً لم أفكر بهذا.. إمدادات!.. الملاعين!
في تلك اللحظات كان الشاب الذي بقي في السيارة يرى أن رصاصات زملائه ترتد عن السيارة، والسائق ترك التصويب، خفق قلبه بشدة، لم يكن يريد لهؤلاء أن يهربوا فهم غنيمة ثمينة لكونهم من رجال الموساد، فترك مكانه وانطلق إلى السيارة المصفحة، وقفز على سقفها، سمع ضحكاتهم وقد أصابوا أحد المقاومين، فأسرع وأدخل سلاحه من فتحة النافذة المجاورة للسائق الذي كان يصعد الرصيف الآن، وأطلق الرصاص، جحظت عين السائق وسقطت رأسه على المقود، فانطلق نفير السيارة.. اتسعت عيون باقي الجنود بدورهم، وصرخ أحدهم:
- اللعنة.. موفاز.. ولكن كيف؟
وقبل أن يعرف الإجابة انطلقت الرصاصات لتحصدهم جميعاً، تاركةً ملامح الرعب مطبوعة على وجوههم شاهدةً على كذب ادعاءاتهم بالبطولة والشجاعة..
وقف الشاب على السيارة وهتف:
- الله أكبر.. الله أكبر..
ردد الأهالي من بعده التكبيرات بفرح، ثم ابتعد هو وأصحابه الثلاثة، دون أن يشعر بهم أحد..
وسط التكبيرات اقتربت مجموعة من الشباب وحاولوا فتح السيارة لكنهم لم يستطيعوا، فأشعلوا النار في السيارة، كانت ألسنة اللهب ترتفع في الهواء فتختلط مع زفرات الأهالي، كأن نيران السيارة هي نيران قلوبهم التي صنعها المحتل بقتله الأهالي وتدميره البيوت في القصف اليومي..
كانت مجزرة السوق ماثلة في أعين أهل الفلوجة لم يمض عليها يوم واحد، وكان هناك شهيد في كل بيت، فبدا أن هذا انتقام لهم جميعاً..
تقدمت مجموعة غاضبة من طلاب مدرسة إعدادية، وكل منهم قد فقد أخاً أو أختاً أو قريباً، أو تهدّم بيته، واقتربوا من السيارة بعد أن هدأت نيرانها قليلاً، فأخرجوا الجثث وعلقوها على جسر الفلوجة، كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي يشعرون فيها أنهم قد آذوا الأمريكيين، رغم أن تعليق الجثث لا يساوي قتل أطفال الأهالي ونسائهم، ولا يساوي الاعتقالات العشوائية التي تحصد كل من تصل إليه يد المحتل فيُلقى في المعتقلات ولا يدري عنهم أحد، ولا يساوي كذلك تعذيب الأحياء الذي يتم داخل المعتقلات، بعيداً عن أعين الناس فيقومون بما تقشعر له الأبدان وتفزع له القلوب..
************************************************************
في إحدى القواعد الأمريكية، وفي قاعة الاجتماعات، كان الغضب بادياً على الوجوه، وهم يناقشون ما حصل وأحدهم يلقي اللوم على الآخر، ثم صمت الجميع عندما دخل القائد الأعلى للقوات الأمريكية جون، وترأس الاجتماع، حيث طلب من أحد الضباط أن يلقي على مسامعه تقريراً عن الحادث، وبعد أن انتهى التقرير قال:
- جنرال مايكل ألم تعرف أهمية المهمة التي عُهِدت إليك؟
امتقع وجه الجنرال، لكنه حاول التماسك وقال:
- سيدي.. كنت أعرف، وقد كلفت رجالي بتزويدهم بأحدث الأسلحة، وقد استخدموا أفضل سيارة مصفحة لدينا، واستخدموا التمويه حتى يبدو كأنهم من وكالات الإغاثة، فارتدوا الثياب المدنية، ولم تكن السيارة سيارة عسكرية، كما أني لم أرسل معهم سيارات حراسة حتى لا ألفت النظر إليهم، واعتمدت على كونهم جنوداً مدربين بل ومن الموساد، واستغرب كيف استطاعوا التغلب عليهم.
صمت الجنرال مايكل، فساد سكون ثقيل، ثم قال الجنرال جون:
- فسّر إذن ما حدث.
قال الجنرال مايكل وقد أعد عدته لهذا السؤال:
- سيدي.. يبدو أنهم أخطأوا.. فقد علمنا من التقارير التي وصلتنا أنه تم تبادل إطلاق نيران بينهم وبين المقاومين، ويبدو أنهم فتحوا نوافذ السيارة، كان هذا خطأً حتى لو أنهم فتحوها قليلاً فقط للتصويب، وقد كان الأولى بهم أن يتحصنوا في السيارة، وينطلقوا بها على الأرصفة ما داموا قد وقفوا بسبب الزحام، لكنهم لم يفكروا جيداً وسهلوا على الإرهابيين قتلهم، وربما لم يصدقونا عندما أخبرناهم وحذرناهم من الفلوجة وبأنها أرض الموت..
بدا الامتعاض على وجهه الجنرال جون وضرب الطاولة بقبضته في غضب وقال:
- وهل تريدني أن أقول هذا الكلام للسيد وزير الدفاع؟ هل هذا ما تريدنا أن نقوله للإسرائيليين؟ رجالكم أخطأوا، ونعتذر لأننا أخفقنا في حمايتهم! هل تريدني أن أقول هذا؟
ارتبك الجنرال مايكل قليلاً لغضب الجنرال جون، لكن عينيه التمعتا وهو يبتسم بخبث ويكمل إجابته التي خطط لها:
- لا يا سيدي.. لدي اقتراح آخر.. ما رأيك أن تقول لهم أن من قتل الجنود الأربعة هم جماعة أبو مصعب الزرقاوي؟
ساد الصمت في المجلس، وبدا أن اقتراح الجنرال مايكل قد فاجأهم لكنه لاقى قبولاً من الجميع فقال أحد الجنرالات:
- سيدي إذا سمحت لي..
فقال الجنرال جون:
- هات ما عندك جنرال ستانلي.
قال الجنرال ستانلي:
- سيدي.. إلقاء التهمة على الزرقاوي وجماعته لن يبرر فقط موقفنا أمام إسرائيل، بل ونستطيع استخدام فكرة القبض على الزرقاوي للقيام بعملية عسكرية للانتقام لهؤلاء الجنود، وللقبض على أبو مصعب الزرقاوي، وبذلك نلقن أهل الفلوجة درساً لن ينسوه، ونحكم قبضتنا على جزءٍ مهمٍ من العراق..
كان الجنرال جون ينقر الطاولة بإصبعه في رتابة، وفجأة توقف عن ذلك وانبسطت ملامح وجهه وقد بدا عليه الارتياح وقال:
- فكرة لا بأس بها، سنُخضعها للدراسة، أما الآن فأريد أن يتم التحقيق مع كل من كانت له علاقة بهؤلاء الجنود، لمعالجة هذا التسرب الخطير جداً في المعلومات، وأريد نتائج التقرير على مكتبي خلال ثلاثة أيام على الأكثر.
ثم نهض وغادر القاعة، التي انفجرت بالتعليقات بعد مغادرته، والجميع يناقش الفكرة التي طًرحت في الاجتماع، وبعد يومين، جاءت الأوامر بتنفيذ الخطة، وحشد جيش كبير لمقاتلة الفلوجة، التي صمدت في المرة الأولى، وكانت الأوامر تنص على عدم ادخار جهد في الوصول إلى أبو مصعب الزرقاوي، بقتل كل حي يتحرك، واستخدام جميع أنواع الأسلحة إذا ما احتاجت القوات لذلك، وبالنسبة للجنرال مايكل، فقد كانت الحاجة لاستخدام كل أنواع الأسلحة قائمة منذ اللحظة الأولى للحرب..
************************************************************
كانت نجلاء تذهب إلى الحضانة كل يوم قرابة الساعة التاسعة، ويمر أياد عليها عند عودته من عمله ليرجعها معه إلى المنزل، تعلّقت نجلاء بالأطفال هناك، فكانت تحب سماع عائشة وهي تحكي، وتحب رؤية ياسر ومحمد وهما يلعبان وكذلك بقية الأطفال.. كانت أعمارهم مختلفة، ولكل منهم شخصية جميلة جذابة، كانت تحب تحلّقهم حولها وهم يستمعون إليها تحكي لهم القصص بشكل مبسط، وتحاكي أحداث القصة بأصوات وحركات..
وذات يوم وبينما هي تراقب وجههم المتعلّقة بها، حيث عيونهم التي اتسعت من الخوف على العصفور من القط، وضحكاتهم التي انطلقت بسعادة فرحاً لنجاة ليلى من الذئب، دوى صوت انفجار هائل أحال ضحكاتهم البريئة إلى صراخ خائف مرتعب، توترت نجلاء، فليست المشكلة في صوت الانفجار الذي كان الجميع معتاداً عليه، إنما بسبب قرب الصوت وشدته، كان الأطفال يصرخون ويركضون في كل اتجاه، وقد جاءت أم حارث لتساعد نجلاء في تهدئة الأطفال، وإلهائهم ببعض الأناشيد التي بدأ بعض الأطفال ترديدها مع نجلاء وأم حارث، وبدأت البسمات ترتسم على الوجوه، وأيديهم الصغيرة تكفكف دموعهم، وصوتهم يتعالى يحاول أن يطغى على صوت الطائرات والقصف، لكن صوت الطائرة الحربية المنطلقة عاد ليدوي قريباً من الحضانة وليدوي بصوت قوي جداً، جعل الأرض تهتز من تحتهم، وزجاج بعض النوافذ يتطاير متحطماً من مكانه، متناثر على بعض الأطفال، الذي ازدادوا رعباً وصراخاً مطالبين بأمهاتهم، حاولت أم حارث ونجلاء احتضانهم وتهدئتهم، وهما تفكران فيما يجب أن تفعلاه، إذ يبدو أن القصف متركز اليوم على منطقتهم هذه بالذات، إذن ليس من الحكمة الخروج من الحضانة، وانقسم الأطفال إلى مجموعتين إحداهما مع أم حارث والأخرى مع نجلاء، وكلتاهما تحاول جهدها في تهدئة الأطفال وبث الطمأنينة في قلوبهم.
عادت الطائرة من جديد تئز فوق المنزل، وازدادت صرخات الأطفال عندما انفجر حائط المنزل كاملاً فأَخمد بعض الصرخات البريئة، وازدادت الصرخات الأخرى ارتفاعاً، والحجارة المتناثرة من الحائط تضرب الجميع والأطفال الذين تحاول نجلاء أن تغطيهم بجسدها، بينما ارتفعت ألسنة نيرانٍ قوية تلفحهم، رفعت نجلاء رأسها بحذر لترمق الطائرة المعتدية وهي تبتعد، ونجلاء تتابعها بنظرات الغيظ من فتحة السقف الكبيرة التي خلّفها الانفجار، رأت نجلاء النيران وجداراً يكاد ينهر من أثر الضربة، كانت مجموعتها الأبعد عن الانفجار، كانوا بخير تقريباً، كان بعض البكاء والصراخ يخرج من الغرفة الأخرى وربما بعضه من تحت الأنقاض، لكن قبل أن تفعل أي شيء يجب أن تخرج الأطفال الذين معها إلى الخارج قبل أن ينهار الجدار، أخذت تدفعهم أمامها وهي تطبطب على أكتافهم ورؤوسهم، وما إن أصبحت في حديقة منزل أم حارث حتى رأت أمامها بعض الرجال والنساء الذين جاءوا بعد أن هدأ القصف، وسمعوا بل ربما رأوا الضربة التي أصابت منزل أم حارث الذي يعرفون أنه حضانة، تركت الأطفال في حماية بعض السيدات ثم عادت مع الذين دخلوا ليطفئوا النار وليروا إن كان من أحياء بالداخل، لم تتمالك نفسها وهي ترى يداً صغيرة تخرج من تحت أنقاض الحائط، فانهمرت دموعها بحرقة، تابعت بحثها وهي تنادي أم حارث، وبعد أن أزاح الرجال ركاماً كان يغلق فتحة باب الغرفة التي يُسمع منها الأصوات المستنجدة، اندفعت إلى الغرفة لتبحث عن الأطفال كأنهم أولادها، وجدت بعضهم جالساً قرب الركام يبكي، فاحتضنتهم جميعاً وأخرجتهم وهي تحاول أن تبعد نظرهم عن الأشلاء المحترقة التي بدت بعد إطفاء النيران، وعندما سلمتهم للنساء الواقفات بالخارج، عادت لتحاول المساعدة في إخراج طفل يبدو لهم صوته من تحت الأنقاض، تعرفت فيه صوت ياسر فأخذت تحدثه وتصبّره، وحاولت النظر علها تجد أم حارث في مكان ما، لكنها لم تجد لها أثراً، وبعد عدة محاولات استطاعوا إخراج ياسر، الذي احتضنته نجلاء بفرح على نجاته، ودموعها تغرق خديها، ثم لمحت قدم أم حارث، لابد أن تكون قدمها فهي أكبر من أقدام الأطفال، كانت محترقة ممزقة، شهقت نجلاء، وأغمضت عينيها مخفية رأس ياسر في صدرها وهي تُخرجه إلى الحديقة، فجاءتها الطفلة عائشة وقالت لها:
- ست نجلاء.. ست نجلاء.. أين محمد وست وداد؟
انحنت نجلاء لتقابلها وهي تغالب حرقة قلبها ودموعها المنهمرة، لتقول:
- في الجنة.. هم في الجنة.. إن شاء الله..
غصت كلماتها الأخيرة في دموعها واحتضنت عائشة محاولة بث الطمأنينة في القلوب الصغيرة البريئة، ثم عادت إلى الداخل علها تكون مخطئة..
************************************************************
كان أياد جالساً في مكتبه عندما بدأت الغارة، وبدأت الإنفجارات ترتفع، ثم سكنت بعد ربع ساعة من القصف المدمر، عندما سمع أحد زملاءه في العمل يقولون:
- الحضانة قُصفت.. الحضانة.. أولادي هناك..
خفق قلب أياد بشدة وهو يستمع لهذه الكلمات قبل أن يسأله:
- ولكن.. جمال.. من أين عرفت؟
كان جمال يخرج من الغرفة مسرعاً فتوقف للحظة وقال:
- أم هيثم قريبتنا جارة الحضانة اتصلت وأخبرتني ولكنها لم تعرف شيئاً بعد عن أولادي.. يارب سلّم.. يارب سلّم..
وانطلق عبر الممر إلى سيارته..
خفق قلب أياد، فعروسه وشريكة حياته وأم أولاده المستقبليين هناك، انطلق مسرعاً خلف جمال، وركب سيارته متجهاً إلى الحضانة، وقلبه يرتعد خوفاً، لا يريد مجرد التفكير أنه قد حصل لها شيء، تذكر أول مرة رآها فيها، كيف رآها محجبة حجاباً سابغاً، محترمة، تمضي في طريقها، غاضة للبصر، تبعها حتى عرف بيتها، ورجع يخبر أمه أنه يريد أن تخطب له، تذكرها وهي ترفل في فستانها الأبيض وتمشي كالأميرات، تذكر رحلتهما معاً إلى آثار سامراء، جولتهما، كلماتها، نقاشهما حول تاريخ الآثار، تذكرها كل يوم توقظه قبل صلاة الفجر ليصليا قيام الليل، وتراءى له وجهها الملتف بغطاء الصلاة الأبيض كسحابة بيضاء تحوط القمر..
كان يسابق الزمن للوصول إلى الحضانة التي ما أن أصبح قريباً منها نوعاً ما حتى بدا أن الطريق مسدود، ترك سيارته وهو يسمع سرينات سيارة الإسعاف، انطلق يعدو على الرصيف وهو يشاهد الدماء هنا وهناك، وبعض السيارات المحترقة التي يرشها الموجودون بالماء، انقبض قلبه خوفاً، وتزايدت سرعته حتى وصل إلى الحضانة واقتحم بابها الخارجي مندفعاً يبحث عنها بعينيه، سأل بعض الواقفين فلم يعرفوها، أسرع إلى المنزل يحاول دخوله إلا أن بعض الرجال كانوا يعدون خارجين منه ومن خلفهم يدوى صوت هائل، ظنه أياد انفجاراً آخر إلا أنه سمع كلامهم وهم يقولون:
- وقع الجدار عليهم..
- كان سيقع في أي لحظة.. فقد خلخله الانفجار..
- الله يرحمهم.. يجب أن نستعين بالآلات لنخرجهم..
سقط قلب أياد بين قدميه، وهو يصرخ:
- أرأيتم امرأة؟ امرأة متوسطة الطول، بيضاء، عيناها عسليتان.. أما رأيتموها؟
رد عليه أحدهم:
- أنا رأيت امرأة لكني لم أميز شكلها تماماً، فقد سقط الجدار مباشرة عندما لمحتها.. الله يرحمها ويرحم الجميع.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. الله يصبّرك..
انهار أياد.. سقط على ركبتيه.. لم يعد قادراً على الوقوف.. لقد تحقق أسوأ مخاوفه.. شعر بأن الدنيا تظلم في وجهه.. غطى وجهه بكفيه.. ولم يقدر على منع تلك العَبَرات التي تسللت من عينيه.. لقد فقد فجأة كل ما بناه وسعى من أجله.. كل عمله الإضافي واجتهاده.. كل أحلامه وأمنياته.. أولاده.. الطبيب والمهندس والمعلمة.. وزوجته التي ترعى كل ذلك وتكلله كملكة..
انتهى كل شيء بسبب هؤلاء الأوغاد..
أمريكا التي لا عمل لها سوى نشر الإرهاب في العالم.. أليس الإرهاب قتل الأبرياء؟؟ أليس قصف الحضانة وقتل الأطفال الأبرياء إرهاباً؟ أليس ترويع الآمنين وتدمير البيوت إرهاباً؟؟ أليس الاحتلال بكل أشكاله إرهاباً؟!!!
اضطرمت النار في قلبه.. فهاهي أمريكا تنتزع منه زوجته الغالية.. بعد أن انتزعت الأمن والسلام.. وبعد أن انتزعت وطنه الحبيب..
شعر أنه لا بد أن يفعل شيئاً.. لابد أن ينضم لعبد الستار ولطفي وإبراهيم.. كلهم يحملون السلاح ليدافعوا عن أرضهم وشرفهم.. لا يقتلون سوى الأمريكيين.. ويحافظون على الأمن والاستقرار بعد سقوط الدولة..
لابد أن ينضم إليهم.. ويتعلم القتال.. ويقاتل.. يقاتل لينتقم لنجلاء الحبيبية..
صرخ وهو يثب من سقطته:
- نعم.. لابد..
لكن من اصطدمت به عيناه كان آخر شخص يتوقعه.. كان نجلاء.. نعم لابد أنها هي.. كانت تحمل طفلاً مصاباً في قدمه إلى المسعفين..
تقدم منها فتراءت له.. نجلاء الجميلة.. الزوجة الحبيبة.. على قيد الحياة.. انطلق إليها وهو ينادي:
- نجلاء.. نجلاااااااااء..
التفتت إليه والسعادة تتلألأ في وجهها، وناولت الطفل للمُسعف وابتسمت لأياد وقالت:
- هل أتيت لتطمأن عليّ؟
كانت السعادة قد ألجمته.. فتردد لحظة ثم سألها:
- تلك المرأة في الداخل.. من هي إذن؟
أطرقت نجلاء برأسها أسىً وقالت:
- أم حارث.. رحمها الله..
ثم استدركت وهي تنظر في عينيه:
- هل ظننتني أنا هي؟
نظر إليها ليتأكد من أنها أمامه وقال:
- نعم.. ظننتك..... ولكن لا.. الحمد لله أنك بخير.. ولا داعي لأن أعود لظني السابق.. هل أنت بخير؟
ثم نظر بجزع إلى دماء تلوث ثيابها وقال:
- ما هذه الدماء؟ أنت مصابة؟
قالت بحزن:
- إصابات خفيفة.. لكن الدماء هي دماء بعض الأطفال.. الأطفال الذين أحبهم.. فقد أصيبت زهراء وشمس لكنهما بخير والحمد لله.. أما محمد.. محمد ذو السنوات الخمس، الذي كنت أخبرك أنه كان يجمع مصروفه على أمل أن يستطيع أن يشتري نعالاً لأمه التي تعمل طوال اليوم، محمد وزينب استشهدا تحت الحطام مع أم حارث، كان المنظر رهيباً، يا إلهي.. أياد أنت لم ترَ أشلاءهم.. لم تر الدماء..
أمسكها أياد من كتفها، وقال وهو ينظر إلى وجهها محاولاً التخفيف عنها:
- طيور في الجنة.. لا تنسي أنهم طيور في الجنة..
أومأت برأسها وقالت:
- نعم إن شاء الله.. الله يعين أهلهم.. أريد أن أتأكد من وصول الأطفال إلى أهاليهم، معظم الأهالي قد أخذوا أطفالهم.. لكن يجب أن أبقى مع الباقين..
ربت أياد على كتفها وقال:
- وأنا معك.. هيا.. من بقي؟
تأكدت نجلاء من وصول الأطفال إلى أهلهم، وحاولت التخفيف من آلام أهالي الشهداء.. عادت إلى المنزل مع أياد.. وفي قلب كل منهما أمل كبير..
أمل بأن هذا الاحتلال مجرد كابوس..
كابوس سينجلي مع استمرار المقاومة..
يتبــــــــــــــــــــــع .............
6 التعليقات:
تحياتي وسلامي لكم أهلنا أينما تكونوا ،لقد أجدت في رواية الأحداث وكأني بها تحدث أمامي ،وأنطباعي الأول من خلال القرأة يوحي بأن هذه القصة تصلح لان تكون مسلسل درامي يوثق لأحداث بقعة من أرض عراقنا عانت من خلال ما مرت به من أحداث جسام ولم ينصفها الإعلام الداخلي ولا العالمي كثيرا،وأرجو أن تقرأي ما نشرته أخيرا عن الموت الهادئ للحرية وهو يروي إزدواجية المعايير في تعامل الإعلام الغربي مع أحداث العراق ويذكر أحد الأمثلة على ما حصل في الفلوجة عام 2004.
أتمنى أن لاتنتهي أحداث القصة لنجلاء وزوجها كما أتوقع.
قوائم علاوي وبولاني سنية بعثية. قوائم الحكيم و المالكي ايرانية نشالة. والعراق في حاجة الى تغيير
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أشكر إطراءك أخي الكريم..
إن ما حدث على أرض الفلوجة هو دراما إنسانية واقعية مهما كتبت عنها فلا أستطيع غير الوصول لجزء يسير منها، هناك الكثير مما أخفاه الإعلام العميل، بل وصوّره على هيئة نصر وتحرير!!!!
أخ أيمن..
ليس كل سني بعثي!! إن التعميم هو خطأ عربي شائع لا يؤدي إلا إلى الهاوية!
الاخت الفاضلة زهرة الراوي مع الاحترام
ابارك لكم حلول عيد الاضحى السعيد اعاده الله على العراقيين جميعا وقد توحدت كلمتهم وتساموا فوق خلافاتهم واستفادوا من اخطائهم وعرفوا انهم ان تفرقوا فسوف لن يهنئوا ابدا والله الموفق
خالد ابراهيم
آمييييين إن شاء الله..
وكل عام وأنتم بخير.. دائماً سباق في التهنئة أخي الكريم..
إرسال تعليق