بغداد والوداع الأخير (2)

في الصباح قفزت بنشاط لم أعهده في نفسي .. سحبت المسدس والبندقية من تحت السرير .. تأكدت من حشوها .. فقد علمنا والدي كيف نستخدمها وكيف نحشوها بالرصاص .. أخرجت علبة الرصاص ووضعتها أمامي .. سحبت حقيبة قديمة من تحت السرير كانت ملقاة هناك منذ زمن .. وضعت البندقية والمسدس وعلبة الرصاص .. ذهبت إلى غرفة الجلوس ومن تحت الخزانة أخرجت الأنبوبة الطويلة .. الـ ( آر بي جي ) سلاح فتاك ويناسب ما أنوي القيام به ..
سحبت بجهد الحقيبة السوداء التي كانت بجانب السلاح .. كانت بها ثلاث قذائف .. جيد لا أظنني سأحتاج أكثر .. إن خطتي وببساطة أن أذهب إلى الناصرية وأضرب دبابة أمريكية أو بريطانية .. لقد بدءوا في التوغل في تلك المنطقة ، كما أني أستطيع الوصول إليها بشيء من الجهد .. طبعاً لا يمكن أن أنطلق صباحاً فعندها سينتبه أهلي إلى غيابي سريعاً ..
على العشاء جلست أرمق أفراد عائلتي .. أبي معلم المدرسة جالس أمام التلفاز وبجانبه المذياع لا أدري لأيهما يستمع .. أمي التي تضع العشاء المكون من الباذنجان والطماطم المقلية وخبز التنور الذي تتقن صنعه .. أمي ذات القلب الكبير والصدر الحنون .. أخي الذي يصغرني بثلاثة أعوام والزغب النامي فوق شفته .. أختي التي تجدل شعرها ، وأخوي الصغيرين الذين ينوحان مطالبين هما أيضاً بطعامهما .. كلنا محشورون في تلك الغرفة الضيقة .. التي دائماً ما نلجأ إليها في الليالي حيث تزداد الغارات وتقوم الطائرات بتكثيف القصف وتزيد احتمالات إصابة المنزل .. ففي الزاوية تتكدس أكياس الطحين والأرز وبعض المواد الأساسية وجالونات من الماء ، وقد ألصقنا الأشرطة بأشكال متقاطعة على زجاج النوافذ لنمنع شظاياها من التناثر في وجوهنا إذا ما تحطمت ، وأغلقنا فتحات النوافذ في مكان التحامها مع الجدار ، وفتحة المفتاح بالباب وكل الفتحات في الغرفة بالنايلون ، وجهزنا ما نغلق به الفتحة أسفل الباب ، كل الفتحات ستغلق وسنعتصم بهذه الغرفة لو تم ضربنا بالسلاح الكيماوي ..
نظرت إليهم من جديد .. الحقيقة أني ربما لن أعود .. وعندها سأفتقدهم .. سأفتقدهم كثيراً .. أخذت أملئ عيني منهم ، وبدون أن أدري انحدرت من عيني دمعة .. مسحتها بسرعة قبل أن ينتبه إليها أحد .. وقبل أن يناموا قبلتهم جميعاً فضحكوا وقالوا : يبدو أنها متأكدة من أننا سنموت الليلة ..
عندما خيم الليل تسللت خارجة من المنزل كان الحمل ثقيلاً .. وضعته في صندوق السيارة .. وانطلقت قاطعة شوارع بغداد .. أنظر إليها وأحسبني كنت أودعها الوداع الأخير ..
استغرقت قرابة الخمس ساعات للوصول إلى الناصرية ، غلبني النعاس كثيراً وخفت أن أموت بحادث سيارة .. لا .. ليس قبل أن أقتل واحداً أو اثنين منهم ..
أوقفت السيارة قرب جدار متهدم .. كانت الدماء تلطخ الجدار .. وشظايا لقنبلة سقطت في منتصف البيت تماماً .. الله أعلم كم كان عدد الضحايا .. فهذه البيوت تضم عادة الكثير من الصغار بشكل خاص .. هه .. ويقولون أنهم يضربون أهدافاً عسكرية !!
جلست هناك .. تأملت النخلات .. كم من صاروخ مر عليك أيتها النخلة .. وكم من شخص مات بجانبك.. وكم من الدماء سالت على جذعك ؟ وكم من محتضر أسر بكلماته الأخيرة إليك ؟
كانت أضواء الصباح قد بدأت بالبزوغ من خلف المزروعات الخضراء .. والهواء كان نقياً .. هبت نسمة جنوبية .. أحسست أن تلك المزروعات والنباتات تتمايل بسلام .. دون أن يخطر ببالها لحظة أن قدماً غريبة قادمة من مكان ما من قارة خلف المحيط ستأتي لتسحقها وتئدها وتنتزع منها الحياة ..
وضعت القذيفة في الـ آر بي جي .. وحشوت المسدس والبندقية .. فقد لا يتسع لي الوقت لإعادة حشو أحدها ..
احتميت ببقايا جدار المنزل ووضعت المسدس بجيبي والبندقية بجواري .. أما الـ آر بي جي فهو بيدي .. كومت بعض الحجارة لأسند السلاح إليها وهو مصوب باتجاه الطريق المعبد ..
بعد قليل مر طفل صغير يحمل إناءً في الغالب ليملأه بالماء .. ثم مرت مجموعة من الأطفال الذين يشدون بالنشيد الوطني ..
وطن مدا على الأفق جناحاً .. وارتدى مجد الحضارات وشاحاً
بوركت أرض الفراتين .. وطـن .. عبقري المجد عزماً وسماحاً
أخذت أدندن به .. راقت لي الفكرة .. وقد أسعدني أن أشعر بالنشوة والفخر .. الذين بعثهما النشيد في قلبي ..
بعد فترة بدأت أسمع أصوات صراخ .. صراخ حاد يشق عنان السماء .. ما الذي يفعله هؤلاء الحقراء ؟
كان بوسعي أن أنطلق ولكن لا .. يوجد رجال هناك .. ربما من الأفضل أن أنتظر هنا .. أنتظر دبابة تمر .. طليعة الجيش ..
ظللت أسمع أصوات الصراخ فترة ثم انتهى كل شيء كما بدأ .. إذ ربما أهمد المعتدون صرخات النساء هذه إلى الأبد بذلك الأسلوب الذي يجيدونه ..
بعد قليل .. بدأت أسمع الصوت الذي انتظرته منذ فترة .. الصوت الهادر للدبابة وهي تشق سكون المزارع .. ارتعشت فَرِحة .. سأنتقم .. نعم .. أخيراً سأنتقم لك يا مؤيد ..
تحفزت يدي على زناد ال آر بي جي .. وتحفزت في جلستي .. يجب أن أركز جيداً .. يجب أن أحقق شيئاً .. يجب أن أنتقم ..
اقتربت الدبابة أكثر وبدأت أكثر وضوحاً .. كان هناك جندي يخرج رأسه من فتحة الدبابة ورشاشه بيده .. كان يلتفت ذات اليمين وذات الشمال .. كان خائفاً وقد بث الله الرعب في قلوبهم كما فعل في معركة بدر .. إنهم خائفون .. خائفون من الموت الذي يبرز لهم من تحت كل حجر .. من كل بيت .. ومن كل جدار متهدم .. وكنت أنا والموت نتربص بهم من المكان ذاته ..
وجهتها جيداً نحو ما أظنه كابينة القيادة .. بسم الله الرحمن الرحيم .. تمتمت بها .. الله أكبر صرخت بها وأنا أضغط الزناد ..
بمم ..
صوت الانفجار الأول ..
وضعت القذيفة الثانية بسرعة في السلاح وصوبتها من جديد نحو الدبابة ..
هذه من أجل مؤيد .. بسم الله ..
وضغطت الزناد ..
بمم ..
من جديد يدوي الانفجار ..
ظننت أني بدأت أنتصر .. غير أن سائق الدبابة انتوى غير ذلك .. فقد اندفع بالدبابة ناحيتي عازماً على تحطيمي ..
بسرعة أكبر .. وضعت القذيفة الأخيرة ..
ولكن الدبابة تقترب أكثر ..
وهذه من أجل الشعب العراقي .. والشهداء .. والأطفال .. والنساء .. والشيوخ .. والإسلام .. والأرض .. والوطن .. والـ ..
بسم الله ..
كنت قد ضغطت الزناد ..
بمم ..
الانفجار الثالث ..
للحظة ظننت أنني نجوت ..
ولكن الدبابة كانت قد انفجرت وألقتني بعيداً ..
أحسست بالألم في جميع عظامي .. يبدو كأنها تحطمت إلى قطع ..
أحسست أن إحدى ساقي تأبى أن تتحرك ..
كما لمحت خيطاً من الدم ينساب من جرح في كتفي ..
بقيت مستلقية حيث كنت ..
كانت دقيقتين تقريباً قد مرتا عندما سمعت تلك الآهة الخافتة ..
التفت لأجد جندياً أمريكياً ربما ، إذ لم يكن الوقت قد اتسع لأرى العلم البشع على الدبابة ..
كان الجندي هناك ..
بدا أنه سقط من البداية ..
لم يكن مصاباً أبداً ..
وكان بعيداً عن موقع الدبابة بما يكفي لأعتقد بأنه الجندي الذي كان واقفاً في الفتحة ..
تحسست جيبي ..
كان المسدس لا يزال هناك ..
الحمد لله ..
نهض المعتدي من سقطته ..
ونهضت أنا ببطء ..
كانت إصاباتي لا زالت تؤلمني وكنت قد بدأت أشعر أن جسدي بلا طاقة ..
ولكني تحاملت على نفسي قدر استطاعتي ..
ووقفت أستند على جدار هناك ..
نظر نحوي نظرة مليئة بالرعب وقال : سيدة أنت لا تقتل ..
كانت يداه ترتجفان بقوة .. رغم أن حزامه كان يحتوي قنبلتين وأشياء أخرى ..
ولكنه الرعب ..
لقد خاف من امرأة !!
لم أشأ أن أتركه .. ألم يقتلوا هم بقلب بارد من توسل لهم .. عبر السنين ..
رفعت المسدس وسحبت صمام الأمان ..
إصبعي على الزناد ..
لكن فجأة تشوشت الصورة أمامي .. وخذلتني قدمي للحظة ..
تحاملتُ على نفسي واستطعت أن أتمالك نفسي ..
إلا عيني اصطدمتا بنظرته الحقود .. وابتسامته المقيتة ..
كان الرشاش بيده وكان يصوبه ناحيتي ..
كانت اللحظات التالية حاسمة ..
المسدس في وجه الرشاش ..
للحظة .. تذكرت غرفة مؤيد والدماء التي كانت هناك ..
تذكرت جنازته ..
تذكرت صرخات المشيعين ..
لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله ..
فكرت .. لماذا لا أكون شهيدة ..
لم أعرف ما فكر به هو في تلك اللحظات ..
فقط قلت :
بسم الله الرحمن الرحيم ..
وصوبت نحوه .. و ..
ضغطت الزناد ..
كان هو أيضاً قد حسم أمره وأطلق في اللحظة ذاتها ..
غير أني لا أذكر سوى تحطم ابتسامته المغرورة ..
والثقب الدامي في جبهته البغيضة ..
وبداية سقوطه نحو الأرض ..
أرأيت يا مؤيد ..
لقد انتقمت لك ..
لقد انتقمت لك يا مؤيد ..
كان هناك أصوات لغط قادمة من جهة البيوت ..
وكانت هناك وجوه سمراء محببة تطفو فوق ذكرياتي ..
ثم لم يعد هناك زمان ولا مكان ..
*****
في إحدى غرف العناية المركزة في المستشفى ..
هناك كانت ترقد ميسون ..
وقد اخترقت جسدها العديد من الرصاصات ..
تحلق حولها الأهل والأصدقاء والعديد العديد ممن سمع بقصة البطلة ..
إلى البطلة التي صنعت المجد لأمتها .. وأهدت إليهم الطريق ..
إلى البطلة التي حولت الأسطورة إلى رماد ..
إلى العزيمة والإرادة والكفاح ..
إلى القوة التي تخلقها العزيمة ..
إلى البطلة التي قتلت أربعة رجال ..
البطلة التي تساوي جميع الرجال ..
إلى ميسون ..

في الصباح التالي ..
لم تعد ميسون هنا ..
كانت هناك ..
مع مؤيد ..
لقد أصبحت البطلة ميسون .. الشهيدة ميسون ..
ولكن .. لها قد كان إخوة .. والحرب لا زالت قائمة ..
والمدافعون يزدادون ضراوة ..
ويزادا إيمانهم بالله ونصره لهم ولو بعد حين ..
لن تذهب دماء الأهل والأحبة هدراً ..وبسم الله سيكون الانتقام هو سيد الموقف ..

4 التعليقات:

*الخاتــــIraqi Ladyـــووون* يقول...

يا ستي الله يسكنهم الجنة هي و مؤيد..
و لكن أرجو إنه ما يكون كل اللي كدرت تحققه هو الإنتقام..

تقبلي تحياتي

زهرة الراوي يقول...

خاتونة ..
أكو فد نقاط يبدو ماانتبهتيلها ..

1- قتلت امريكان
2- سجلت موقف ضد الاحتلال
3- سجلت بطولة نسائية مما يعني أن الحرب لا تقتصر على الرجال كما هو شائع
4- استشهدت ونحسبها كذلك ..

بالمناسبة القصة حقيقية وطلعوها بالتلفزيون أول أيام القصف قبل ما يدخلون بغداد ..

وشكراً عيني على صبرج على القراءة وردج على القصة ..

*الخاتــــIraqi Ladyـــووون* يقول...

ههههههههه العفو عيوني إنتي تتدللين.

لا مو آني بس ده أعلق على التعليق الأخير مال الإنتقام سيد الموقف..
آني أتمنى يكون الجهاد في سبيل الله هو سيد الموقف..

تقبلي تحياتي

زهرة الراوي يقول...

أكيد إن شاء الله الجهاد هو السبيل إلى الحرية ..
لكن المتقاعسين عن الجهاد ما راح يحركهم شي مثل الانتقام، هذا القصدته .. وعموماً تعليق في محله .. جزاك الله خيراً

 

© Copyright يـوميـات مغتـربة . All Rights Reserved.

Designed by TemplateWorld and sponsored by SmashingMagazine

Blogger Template created by Deluxe Templates